إن بلاد ما بين النهرين ـــ عراق الرافدين ـــ قد التقت على أرضه حضارات عريقة اختتمت وجودها بالحضارة العربية الإسلامية في أزهى عصورها، والعراق بلد حباه الله من كل ما يريد، وفرة في الماء، فائض في النفط، تربة خصبة، كوادر بشرية مدربة لذلك فقد كان من المتعين أن يكون العراق قاطرة للتقدم ومنصة للتنمية، ولكن ذلك البلد الذي يمثل ركنًا ركينًا في المنظومة العربية ودولة متألقة في غرب آسيا قد واجه من التحديات ما لا أظن أن شعبًا آخر قد عرف مثلها وتوالت عليه الأحداث العنيفة منذ سنوات طويلة، وتكمن أهمية العراق في أنه وريث لدول تعاقبت على أرضه وحضارات امتزجت بتربته ولكنه لم يسلم من الذين غامروا به فجنى عليه الحكم الفردي ودفع الشعب العراقي ثمنًا غاليًا للضغوط الخارجية والأحداث الداخلية وسقط النظام الملكي عام 1958، وتوافد على العراق حكام لم يدركوا قيمته ولم يعرفوا تفرده الواضح بسبيكة ثقافية لا يملك غيره مثلها، والذي يدفعني إلى الكتابة عن العراق الآن هو شعوري بأن ذلك القطر العربي الكبير قد تعرض في السنوات الأخيرة لمحاولات طمس هويته وتحجيم عروبته بعد معاناة طويلة في تناوب مستمر بين الحصار الاقتصادي والحروب الدامية حتى أن ميزان القوى العربي قد تأثر في إطار الإقليم كله تأثرًا سلبيًا بغياب العراق في كثير من المواقف التي كان حضوره فيها مطلبًا أساسيًا، لقد امتلك العراق تاريخيًا مقومات جرى تبديد بعضها مع غياب الوعي الحقيقي بقيمتها، ولقد سعدت بأن بغداد قد فتحت أبوابها في السنوات الأخيرة أمام أشقائها العرب وأصدقائها من دول العالم لكي تستعيد دورها الكبير ومكانتها المستحقة، ولقد قرأت عن زيارة أمين عام الجامعة العربية لبغداد وزيارات أخرى من الدول العربية والإسلامية بل والإفريقية والآسيوية إلى جانب دول أوروبية تسعى لتأكيد دور لها، فالعراق الذي عانى كثيرًا قد جاء الوقت لكي يحصد نتاج معاناته وعائد تضحياته، ويهمني هنا أن أسجل بعض الملاحظات:
أولًا: إن دور العراق في المنظومة العربية يجب أن يقوى وأن يتزايد وأن يكبر لأن العراق ليس رقمًا عاديًا في الإطار العربي ولكنه كيان يحمل على كاهله التراث الضخم للدولة الإسلامية في قرون تألقها، ولقد ازدهرت الفنون والآداب والأشعار والأذكار في بلاط الخلافة العباسي فضلًا عن تميز الغناء العراقي ومقاماته من الموصل إلى البصرة مرورًا ببغداد، إنها أرض التعايش المشترك بين الديانات والطوائف والمذاهب، إنها بلد المدرسة المستنصرية، ولن أنسى أبدًا تجوالي في بغداد أثناء إحدى الزيارات بين الكاظمية والأعظمية وأنا أرى التاريخ شاخصًا أمامى وأشعر بعبق المزيج الضخم من حضارات الدنيا التي مرت على أرض العراق.
ثانيًا: إن العراق يملك كوادر فنية في كافة التخصصات تجعله متألقًا وسط دول المنطقة، فقد امتلك لفترات طويلة جيشًا قويًا وسلاحًا للطيران متميزًا وفاعلًا، وعلماؤه منتشرون في أنحاء الدنيا وشعراؤه يتغنون بالأمجاد ويشحذون الهمم ويحركون المشاعر، إن ذلك العراق الذي عرفناه دائمًا يعود الآن إلى أمته ركيزة ودعمًا وقوة خصوصًا بعد أن تمكن جيشه الباسل من ضرب فلول الإرهاب التي تحاول أن تطل برأسها من جديد على الأرض التي قاومت عبر التاريخ كل الغزوات العسكرية والنزوات السياسية واحتفظت دائمًا باستقلالها وكبرياء شعبها، ولا أريد لأحد أن يحدثني عن عرب وكرد أو شيعة وسنة فالتعايش المشترك على المستوى الشعبي كان دائمًا راسخًا وأصيلًا ولكن بريطانيا زرعت الفتنة ذات يوم بالتقرب إلى (سنة العراق) عام 1920، وجاءت الولايات المتحدة الأمريكية لتمضي في الاتجاه الآخر عام 2003، وفي الحالتين لا يمكن تمزيق وحدة الشعب العراقي أو النيل من الدماء المشتركة بين طوائفه المختلفة، فالحضارة العربية الإسلامية كانت نتيجة لجهود العراقيين بلا تفرقة بسبب دين أو مذهب أو تمييز بسبب عرق أو جنس.
ثالثًا: إن الأطماع التي تحيط بالعراق هي أمر متوقع، فالبلد الذي حباه الله من الخيرات وفرة كافية كان دائمًا مطمعًا وهدفًا للقوى الاستعمارية ولقد فرض ذلك على العراق الدخول في سلسلة طويلة من المواجهات في كل مراحل تاريخه، إنه عراق الحجاج بن يوسف الثقفي وهو أيضًا عراق صدام حسين التكريتي، وما من مفكر أو عالم أو موسوعي إلا وعاش في العراق أو مر بأرضها لذلك تميز شعراؤه وتألق فنانوه وبرز جيشه العربي مقاتلًا عنيدًا دون تفرقة بين أبنائه، ويكفي أن نتذكر أن الناصر صلاح الدين كردي وأن العلاقة بين الأكراد والعرب هي امتزاج تاريخي طويل يصعب فيه الإشادة بطرف دون الآخر بل إن رئيس العراق الحالي هو شخصية كردية وعروبية في ذات الوقت، ولازلت أتذكر علاقتي الطويلة بالرئيس الراحل جلال طالباني الذي كان يحفظ الأشعار العربية على نحو ليس له مثيل ويستحيل أن تفرق إن كان عربيًا أو كرديًا وقد كان نصيرًا لكل القضايا العراقية والعربية والإسلامية.
إن غياب العراق ـــ مرحليًا ـــ قد جعلنا نشعر بالدور الكبير الذي يلعبه في العمل العربي المشترك، وندعوه إلى أن يستأنف دوره الذي لم يتوقف أبدًا رغم الظروف المعقدة والتحديات الصعبة التي عرفها في السنوات الأخيرة مدركين أن عروبة العراق هي أمر يعتز به ذلك القطر المتألق وتفخر به كافة طوائفه دون تفرقة أو تمييز.
نُشر المقال في جريدة الأهرام بتاريخ 4 مايو 2021.
https://gate.ahram.org.eg/daily/NewsQ/806341.aspx