أحسب أن الالتباس بين منطوق الشرائع السماوية ونصوص القوانين الوضعية هو أمر يستحق العناية والدراسة الواعية والفهم الصحيح، إنها تأتي من المقابلة بين عبارتي حلال أم قانوني في ناحية، أو حرام وضد القانون في ناحية أخرى، وهناك أمور يتوهم المصريون أنها ليست محرمة دينيًا ولكنها مجرمة قانونيًا ومن أمثلة ذلك تعاطي الحشيش الذي استقر في ذهن العامة أنه ليس حرامًا رغم أن فلسفة التحريم قائمة بالنسبة له لأنه يؤدي إلى نتائج لا تقل عن تلك التي تؤدي إليها المشروبات الروحية والمسكرات الشائعة، وعلى الجانب الآخر فإن هناك تصرفات أباحها القانون رغم أنها تعيش في ظل شبهة التحريم من الناحية الدينية برغم كل الاجتهادات المعاصرة التي تحاول الفكاك من ذلك التحريم، والمثال الواضح لهذا الأمر هو شرب الخمر الذي لا يعد – في حدود معينة – جريمة قانونية تلحق بصاحبها وتعرضه للمساءلة وهكذا نجد أن كلمة الحرام ليست متطابقة في معناها مع التعبير الشائع (غير قانوني)، وعليه فإنه يجب الاعتراف بالفارق بين ما حددته الشرائع السماوية وما أباحته القوانين الوضعية فالتطابق بينهما غير قائم فهناك محرمات دينية ولكنها مسموحات قانونًا والعكس بالعكس، ونحن نعتمد في فهمنا للشرائع الدينية على ما ورد في الكتب المقدسة خصوصًا القرآن الكريم باعتبار أن الإسلام هو أكثر الشرائع ثراءً وتداخلًا وربطًا بين الدين والدنيا، ويكفي أن نتذكر النصوص القرآنية والأحاديث النبوية المتواترة والتي تملك إجماعًا من المتخصصين في الشريعة والمعنيين بشئون الإفتاء، وبهذه المناسبة فإن الشريعة الإسلامية تلقى رواجًا لدى غير المسلمين حتى أن بعض الكنائس الكبرى في المسيحية تحدثت صراحة عن الرغبة في استلهام بعض الأحكام المعمول بها في الشريعة المحمدية، فالإسلام عني بحياة الإنسان منذ الميلاد حتى الوفاة مرورًا بالزواج والطلاق وأحكام المواريث، وأنا أتذكر أن أستاذ الشريعة الإسلامية في جامعة باريس كان قبطيًا مصريًا نابهًا يعتبر حجة في فهم تلك الشريعة وأصولها وفروعها وهو الدكتور شفيق شحاتة، ولقد تحدث أسقف الكنيسة الإنجليزية منذ سنوات قليلة عن ضرورة التعاون الفقهي مع الشريعة الإسلامية خصوصًا وأن الامتزاج السكاني قد جعل ملايين المسلمين يعيشون في دول أغلب سكانها من غير المسلمين، وأتذكر شخصيًا أنني سمعت من قداسة البابا الراحل شنودة الثالث أن شرب الخمر غير مستحب في المسيحية وليس صحيحًا أن الإسلام وحده هو الذي جرمها لأن نظرية الضرر تنطبق في كل الأحوال كمبرر للتجريم بغض النظر عن الديانة التي يعتنقها من تنطبق عليهم مفاهيم الضرر بمعناه الإنساني والأخلاقي على السواء، ويهمني هنا أن أضع مزيدًا من التأكيد على النقاط الآتية:
أولًا: إن التطرف الديني والتشدد المذهبي والعنف الطائفي قد أدت كلها إلى فهم مغلوط لروح الأديان وسمحت بوجود هوة انعكست على المجتمعات المختلفة، ولعل ميلاد ظاهرة الإسلاموفوبيا هو التأكيد لهذا المعنى والدليل على أن انطلاق شرارة التطرف والغلو بسبب أزمة ثقة متبادلة تؤدي في النهاية إلى المشهد المزعج الذي نشهد بعض أحداثه في عالم اليوم، لذلك فإنني أطالب بإلحاح تأكيد حرية العقيدة في القوانين الوضعية وضرورة الاحترام المتبادل بين أتباع كل منها دون تزمت أو سوء تأويل.
ثانيًا: إن الانتقال الواضح في العقود الأخيرة من مفهوم التجريم القانوني إلى مفهوم التحريم الديني قد جعلنا أمام مشكلات وأزمات كان يمكن تلافيها لو أدركنا العلاقة السليمة بين فلسفة الأديان وطبيعة الحياة المعاصرة، فلا يوجد دين دعا إلى الرذيلة أو قاوم الفضيلة، فالغايات واحدة والأهداف مشتركة شريطة أن تكون هناك عقول متفتحة وقلوب واعية تميز بين ما يصلح وما لا يصلح، ولقد أسعدني كثيرًا ذلك القرار الذي اتخذته دولة إسلامية كبرى بقصر الالتزام على الأحاديث النبوية بتلك التي تواترت ولم تكن أحاديث أحادية تفتقر إلى الدليل ويعوذها البرهان.
ثالثًا: إنني أحذر من رائحة أشتمها تهب على المنطقة من الغرب وتتحدث عن ديانة تجمع بين اليهودية والمسيحية والإسلام تحت مسمى الديانة الإبراهيمية الكبرى وذلك عبث يبدو كالحق الذي يراد به باطل، فالديانة الإبراهيمية التي يتحدثون عنها تركز على الجزء الأقدم من تاريخها وهو الديانة اليهودية وتعيد إلى الأذهان بعض الأفكار الماسونية، ويجري تصدير هذا الطرح الخطير إلى منطقة الشرق الأوسط مهبط الديانات وملتقى أبناء إبراهيم، وذلك يجهض بالضرورة الحقوق التاريخية لبعض القوميات والأوطان في المنطقة ويسمح بسيطرة من خارجها على شئونها ومستقبل شعوبها، ولقد تصاعدت نغمة الديانة الإبراهيمية تأكيدًا لفكر قديم له جذور في التاريخ الفكري للماسونية والصهيونية بل وبعض الأطروحات الفاشية.
إنني أطالب مخلصًا وجادًا بضرورة التوفيق بين الشرائع السماوية والقوانين الوضعية على أسس دقيقة وموثقة ولا تسمح بالاعتداء على بعضها أو إهمال بعض جوانبها، وأظن أن الجهود المخلصة في هذا الشأن يمكن أن تكون حائط صد أمام محاولات الدمج الهزلي والانتقاء التحكمي لتغليب بعض الشرائع على غيرها وفقًا لأهواء سياسية أو مصالح قومية، ولنتذكر دائمًا أن دعوات السماء والأرض معًا من خلال الديانات السماوية والأرضية تدعو إلى المحبة والإخاء والتسامح والتعاون وترفض التعصب في مجملها إلا ما ندر نتيجة تراكم أحداث خاطئة أو نصوص دخيلة أدت إلى تشويه الوجه المشرق لبعض تلك الديانات، وإذا كان العالم قد بدأ يعود إلى الجوانب الروحية في تاريخه الطويل – بفعل الوباء الكاسح والمخاوف الغامضة من المستقبل – فإنه يتعين على الجميع أن يتصرفوا بنقاء وطهارة أمام ما هو قادم والذي تحف به تأويلات وتوقعات يصعب الجزم بها أو حسم نتائجها، وفي النهاية ينبغي أن ندرك أنه لا تعارض حقيقي بين القوانين الوضعية والشرائع السماوية
نُشر المقال في جريدة الأهرام بتاريخ 11 مايو 2021.
https://gate.ahram.org.eg/daily/NewsQ/807181.aspx