راودتنى كثيرًا الرغبة فى الكتابة عن هذا النموذج المصرى المتميز، ولست أدعى منذ البداية أننى قريب منه، لكننى متابع مدقق فى كل ما قال أو كتب فى العقدين الأخيرين، كما أن علاقتى به على المستوى الإنسانى طيبة فى مجملها، ولكنى أظن أنها ليست وثيقة، لأن ظروف العمل العام لم تضعنى فى طريقه عبر السنين، ولكن الذى لفت نظرى، منذ البداية، هو أن محمد أبوالغار أستاذ طب مرموق على المستويات المحلية والإقليمية والدولية فى فرع أمراض النساء والتوليد، فضلًا عن أنه الرائد فى تقنية أطفال الأنابيب، كما أنه باحث جاد فى فرعه، يقترن اسمه دائمًا بالتطورات الطبية الحديثة مع الانفتاح على كل ما هو جديد فى مهنته، ولقد اكتسب شهرة واسعة فى عمله وضعته على قمة أساتذة تخصصه،
وقد منح الله على يديه الأبوة والأمومة لكثيرين وكثيرات حلموا بها، لذلك فإننى أزعم أن تعاطيه السياستين الخارجية والداخلية إنما هو نتيجة لدوافع وطنية كامنة لدى ذلك النموذج الفريد فى حياتنا، الذى كان ولايزال فى مقدمة أبناء مهنته، لقد بهرنى أبوالغار بقدرته على اقتحام موضوعات تتصل بالتاريخ المصرى الحديث مع إلمام واضح بالشخصيات التى تبدو أحيانًا مختفية فى زحام الأحداث، أو أنها لم تلق من الضوء ما تستحق، فهو مؤرخ ذكى للثورة الشعبية فى عام 1919، وقد زاملته فى ندوة أقامتها الجامعة الأمريكية بالقاهرة فى مئوية تلك الثورة، وبهرنى علمه الواسع ورؤيته الأمينة لأكثر الثورات تأثيرًا فى التاريخ المصرى المعاصر، لأنها بدأت من الشارع، متجهة إلى أعلى، وهى بذلك ثورة شعبية خالصة بدأت من الشعب وانتهت إليه، ولا يدانيها فى ذلك إلا ثورة الشعب المصرى فى 30 من يونيو عام 2013، وقد أبدع أبوالغار يومها فى توصيف مظاهر تلك الثورة والفلسفة الكامنة وراء أحداثها باعتبارها الميلاد الحقيقى لليبرالية الحديثة تحت شعار مصر للمصريين، ولذلك كان طبيعيًا أن ينهى أبوالغار مقالاته دائمًا بعبارة (قوم يا مصرى مصر دايمًا بتناديك)، كما لفت نظرى بشدة اهتمامه بتاريخ الوجود اليهودى فى مصر سياسيًا واجتماعيًا، حتى أصدر فى ذلك كتابًا له قيمته ومكانته، وعندما يرحل أحد رموز الحركة الوطنية المصرية من أبناء الطائفة اليهودية أرى الرجل ينقب فى تاريخه ويقدم صفحات ناصعة لمفهوم الوحدة الوطنية فى بلادنا، والإيمان المطلق بأن الدين لله وأن الوطن للجميع، وهو بذلك يرفع الحرج عن المصريين الذين يوجد فى عاصمتهم قرابة عشرة معابد يهودية لم يمسسها الضرر فى أعوام 1948 أو1956 أو 1967 أو 1973، لأن مصر بحق هى ملتقى الثقافات ومهبط الديانات وحاضنة الحضارات، حتى إن وزير ماليتها، منذ أقل من قرن، كان يهوديًا مصريًا، هو قطاوى باشا، وأنا أتعجب كيف تأتى لطبيب عالمى مرموق أن يضع يده على كل هذه الحقائق، وأن يجد وقتًا فى حياته المزدحمة للقراءة فيها والبحث فى أعماقها، مع متابعة أمينة وواعية للحياة السياسية فى بلادنا، إننى أراه بحق نموذجًا متفردًا يملك من الشجاعة الفكرية ما يجعله يستخدم المساحة المتاحة من الحرية فى كل العهود، وقد لا ترضى عنه بعض النظم السياسية، ولكن استغراقه فى الموضوعية وقدرته على التركيز فيما يفعل تجعله قادرًا على أن يكون محل احترام من يختلفون معه فى الرأى أحيانًا، ولقد شارك أبوالغار بفاعلية ونزاهة فى كواليس أحداث ثورة 25 يناير وما قبلها وما بعدها، ودافع فى مناسبات كثيرة عن قضايا مهمة تدور حول العلم والتعليم والجامعات وكرامة الأستاذ ومكانته، ولم يلهث يومًا وراء منصب ولم يتحمس فى حياته لموقع خارج كلية الطب أو مستشفيات العلاج أو عيادته الشهيرة، ولقد رزقه الله بأسرة فاضلة، حتى إن إحدى بناته قد أصبحت كاتبة معروفة لمن يتابعون مقالاتها، خصوصًا أن أسرة أبوالغار فيها روح أوروبية تضافرت مع الشخصية المصرية وصنعت فى النهاية ذلك النموذج الرائع.
إننى إذ أحيى الأستاذ الكبير- دون مناسبة محددة ولكن عن مجمل أعماله- فإننى أسجل احترام أبناء جيلى لذلك الرجل الذى يبدو أيقونة مضيئة فى حياتنا العامة وتاريخنا الوطنى.
جريدة المصري اليوم
https://www.almasryalyoum.com/news/details/2329164