لا أفضل كثيراً استخدام تعبير «الربيع العربي» عند الإشارة إلى «الثورات» التي وقعت في المنطقة منذ اندلاع الانتفاضة التونسية في نهاية عام 2010، ذلك أن تعبير «الربيع العربي» هو تعبير مستورد استخدمته وسائل الإعلام الغربية قياساً على إلصاق ذات الصفة بأحداث شرق أوروبا، ولعلنا نتذكر أن أول استخدام لهذه الكلمة بدأ مع «ربيع براغ» عام 1968 ثم جرى استخدامه بعد ذلك في الإشارة إلى «الثورة البرتقالية» وغيرها من المسميات التي يتفنن الإعلام الغربي في تسويقها، وإذ نكتب اليوم عن الآثار النفسية للثورات العربية فإننا نلجأ إلى مناهج البحث في علم النفس السياسي إذ أظن عن يقين أن «سيكولوجية» الشعــوب عامـل أساس في فهم طبيعة التغيرات والتحولات التي تحدث في أعقاب الثورات الكبرى أو حتى الانتفاضات المفاجئة، فالملاحظ أن مكونات الشرق الأوسط امتداداً من غرب آسيا إلى شمال أفريقيا قد تغيرت بعد تلك الأحداث التي شهدتها المنطقة، خصوصاً في تونس ومصر وليبيا مروراً بما جرى في اليمن ووصولاً إلى الوضع المعقَّد على الساحة السورية، ولعلي أبسط الآن ما أريد طرحه عبر السطور التالية:
أولاً: لا يجادل أحد في أن انتفاضة الشعوب ضد الاستبداد والفساد هي أمورٌ مشروعة ولها سوابق تاريخية في بقاع مختلفة من أنحاء المعمورة، وحتى الديانات السماوية أجازت حق «الثورة» على الحاكم الظالم. وقد تختلف الشعوب في درجة صبرها وقوة احتمالها ولكنها تلتقي عند نهاية واحدة وهي خروج المقهورين والمعذبين في الأرض إلى الميادين والشوارع يعلنون سقوط حاجز الخوف ويبشرون بقيم الحرية والعدالة ويعلنون ميلاد الفجر الجديد بعد سنوات من التهميش والإقصاء، ولكن الأمور لا تمضي على وتيرة واحدة فمزاج الشعوب يختلف والتركيبة الاجتماعية والنفسية تتفاوت من أمة الى أخرى، إذ إن درجة الاندفاع والرغبة في التغيير ليست بنفس الطبيعة والقوة لدى المجتمعات المختلفة، كما يجب أن نعترف أن الثورات العربية ليست مجموعة مشتركة من الإيجابيات ولكن فيها أيضاً سلبيات لا تخفى على أحد، إذ إن بعض الشعوب والمجتمعات التي أسقطت حاجز الخوف قد أسقطت معه أيضاً حاجز الاحترام فأصبحنا أمام مشهد عبثي تختلط فيه الأمور وتتداخل الصور إلى حدٍ يدفع نحو الفوضى والسيولة السياسية والإعلامية كما هي الحال في الواقع المصري بعد عامين من الثورة.
ثانياً: إن «قضية العدالة الاجتماعية» هي قضية حاكمة وأنا أظن أنها هي التي وقفت وراء الرغبة في التغيير والخروج إلى الميادين لإسقاط نظام الحكم وتغيير المسرح السياسي بأكمله، و»العدالة الاجتماعية» لا تعني فقط «العدالة» في توزيع الثروة ولكنها تعني أيضًا «العدالة» في توزيع السلطة كما تعني تكافؤ الفرص ومكافحة البطالة وتوفير لقمة العيش بالحد الأدنى على الأقل لكل مواطني الدولة، والملاحظ أن معظم الثورات العربية الأخيرة لم ترفع شعارات تتصل بالسياسة الخارجية أو القضية الفلسطينية ولكنها انطلقت أساساً من غياب «العدالة الاجتماعية» التي تقوم على تكافؤ الفرص ورفض التمييز لمصلحة فئات أو طبقات أو أفراد على حساب من يجري تهميشهم عمداً، سواء كان ذلك لأسباب تاريخية أو جغرافية، ولقد لاحظنا أن المواطنين المصريين الذين ثاروا قد رفعوا صور الزعيم الراحل عبدالناصر رغم بعض أخطائه السياسية ونهايته الصعبة لأن المواطن المصري لا يفكر في قضية الديموقراطية بقدر تفكيره في ضمان احتياجاته الأساسية تحت شعار تحقيق العدالة الاجتماعية، ولأن عبدالناصر، بكل ما له وما عليه، قد انحاز الى الفقراء والطبقة الأكثر عدداً والأشد حاجة، فإنه ظل في ذاكرة المصريين تجسيداً قريباً للعدالة الاجتماعية حتى وإن جاءت تحت مظلة اشتراكية الفقر.
ثالثاً: إن الشعب الفرنسي عندما رأى ملكه لويس السادس عشر وملكته ماري انطوانيت تحت المقصلة تغيَّر كثيراً فلم تعد لديه آلهة من البشر ولا أصنام يعبدها فقد تداعت أمامه صور الطغاة والبغاة ولم يعد أمامه ما يخشاه، ولقد تكرر الوضع على الساحة العربية فلقد شاهد العرب والليبيون بوجه خاص معمر القذافي وهو يموت جريحاً تحت وطأة التعذيب وقبله رأى العراقيون رئيسهم صدام حسين وعنقه يتدلى من حبل المشنقة! كما شاهد المصريون الرئيس السابق حسني مبارك نائماً على سرير المرض داخل قفص الاتهام قبل إيداعه السجن، ورأى اليمنيون علي عبدالله صالح وقد اسود وجهه من أثر حريق في محاولة لاغتياله، فلم يعد لدى تلك الشعوب كبير تقيم له حساباً بل على العكس فإن تلك الأحداث أكسبتهم قدرة على التغيير وجرأة في الحديث وجسارة في التنفيذ، وهذه نقطة مهمة لأنها تعني سقوط الأقنعة وتعرية المجتمع والانطلاق نحو آفاق في المستقبل مختلفة تماماً عن أبعاد الماضي.
رابعاً: إن «الثورات العربية» قد تفرغت في معظمها للكيدية وتصفية الحسابات ولم تدخل في مرحلة المصالحة الشاملة التي تبدو لنا أقرب إلى التركيبة النفسية للمصريين والمزاج التاريخي الذي عرفناه لهم عبر العصور، إذ إن رجلاً عظيماً في قامة نلسون مانديلا قد خرج بعد سبعة وعشرين عاماً من السجن بصدر رحب وقلب لا يحمل ضغينة لأحد، بل مد يده ذات يوم إلى يد جلاد الأمس معلناً صفحة جديدة في البلاد وانطلاق جمهورية جنوب أفريقيا نحو آفاق واعدة، ولكن الأمر في المنطقة العربية اختلف عن ذلك للأسف إذ تفرّغت النظم الجديدة لتصفية خصومها مع روح كيديَّة ونظرة سلبية لا تخلو من التعميم، فكانت النتيجة تلك الفوضى الضاربة في أنحاء البلاد مع حالة التيه التي لا نعرف لها نهاية! ولم يجرؤ أحدنا، في مصر على سبيل المثال، كي يتقدم الصفوف ويدعو إلى تناسي الماضي ويسعى إلى نهضةٍ مصرية خالصة تقود البلاد إلى ما هو أفضل بدلاً من إعمال معاول الهدم من دون التفكير في تشييد دعائم المستقبل مع أزمة اقتصادية واضحة وتدهور منتظر للمرافق والخدمات إلى جانب تراجع معدلات النمو والتدفق السياحي على نحوٍ أدى إلى هبوط سعر العملة الوطنية ووضع مصر في مأزق صعب.
خامساً: لقد أتاحت لي الظروف أن أزور تونس بعد ثورتها بعامين وأن أستمع إلى الشكاوى في كل مكان من تدهور الأوضاع وغياب الرؤية وضبابية المستقبل إلى جانب الصراع السياسي المحتدم، ولقد وجدت ذلك مشابهاً بل ومتطابقاً مع المعاناة المصرية بعد الثورة ولكن بمعدلاتٍ أقل بحكم الفارق الكبير في عدد السكان، ولا يخفى على أحد أن مصر تعاني من مشكلاتٍ حادة وصراعاتٍ مكتومة وحالة توتر يومي لا تتوقف مع تهاوي هيبة الدولة وانتشار الفوضى في الشوارع والانفلات الأمني والأخلاقي حتى تعددت الجرائم وأصبحنا أمام أنماط جديدة من الحوادث التي تدل بوضوح على أن الشخصية المصرية قد تغيرت وفقدت جزءاً كبيراً من تسامحها المعهود وبساطتها المشهودة بل ومرحها التلقائي مع شيوع حالات الخطف والتحرش وسقوط القيم وتراجـع الأخــلاق وتهـاوي منظومة الحياة العادية!
إننا إذ نتحدث عن هذه المظاهر التي وفدت على حياة الشعوب في دول «الثورات العربية» فإننا لا نتباكى على الماضي ولا نزعم أن القذافي وبن علي وحتى حسني مبارك كانوا حكّاماً صالحين لهذه المرحلة من مسار البشرية، فتلك نظم شاخت وترهلت وانتهى عمرها الافتراضي ولم تعد صالحة لحياة العصر. إنها تبدو لي كالرجل المريض الذي لم تعد تجدي معه الأدوية والعقاقير فتعين عليه أن يدخل إلى «غرفة العمليات الجراحية» من أجل تغيير جذري لبتر بعض أعضائه وعلاج بعضها الآخر. إننا أمام مشهدٍ بالغ الصعوبة شديد الحساسية سمح لقوى جاهزة بأن تقفز على مقاعد السلطة بدعوى أن صندوق الانتخابات قد أتى بها وهو أمر لا نجادل فيه ولكننا نقول إن المواطن الفقير لا يملك حرية صوته الانتخابي كما أن المواطن الأمي لا يجيد التعبير عن إعطاء صوته لمن يستحقه، كذلك فإن المسلم يمكن دغدغة مشاعره واستقطاب تأييده بسطوة الدين الحنيف المتجذر في أعماقه. وإذا كانت الديموقراطية الغربية هي الخيار الأمثل حتى الآن فإنها تبدو لي كالشر الذي لا بد منه، فهي تظلم الشعوب الفقيرة والتي لا يتمتع أفرادها بدرجة كافية من التعليم والتثقيف وتصب في النهاية في خانة الأكثر تنظيماً والأشد قدرة على توجيه الأصوات لصالحه بطرق معلنة أو مستترة مشروعة أو غير مشروعة! ألم أقل منذ البداية أن «سيكولوجية» الشعوب عامل مهم في تحديد التركيبة النفسية لها والمزاج العام للسياسة والحكم فيها وتحقيق الاستقرار لها وهو مطلبٌ لو تعلمون عزيز.
د. مصطفي الفقي;
جريدة الحياة
تاريخ النشر: 26 فبراير 2013
رابط المقالة: http://www.alhayat.com/article/403297/الآثار-النفسية-للثورات-العربية