استهوتنى منذ طفولتى مسيرة طه حسين، ففيها كفاح وعصامية، وفيها ضوء واستنارة، وهى تقترن بعصر النهضة المصرية التى تكرست فى الفترة الليبرالية من 1922 إلى 1952، وقد بزغ نجم ابن قرية الكيلو مركز مغاغة محافظة المنيا ليخترق الحجب ويكسر الحواجز وينتقل من الأزهر الشريف ناقدًا ومصلحًا إلى عاصمة النور مبعوثًا عصريًا لمصر يحمل مصباحًا فى يده ليراه كل من حوله، بينما هو لا يرى، إذ فقد نعمة البصر فى السنوات الأولى من طفولته نتيجة الإهمال الصحى والجهل الطبى فى ذلك الوقت، ولكن الفتى شق طريقه على نحوٍ فريد يدعو إلى الدهشة ويثير أعلى درجات الإعجاب منتقلاً من الشعر الجاهلى إلى الأدب الجاهلى، ثم قذف الناس برائعته الخالدة (الأيام) التى قرأتها مراتٍ على امتداد عمرى مأخوذًا بجمال الأسلوب وحلاوة اللفظ وعمق المعنى، وسوف تظل تلك التحفة الأدبية أيقونة فى الأدب العربى ترتبط بعميده الذى يعتبر موسيقار الكلمة والذى أحال التكرار اللفظى إلى بناءٍ متكامل فى المعنى دعمًا له وتأكيدًا لدلالته، ولقد فرغت منذ أيام من قراءةٍ ثانية لترجمة الكتاب الذى وضعته بعد رحيله قرينة حياته وشريكة كفاحه السيدة الفرنسية سوزان الذى أظهرت فى سطوره كفاح ذلك المصرى العظيم والمصاعب التى واجهها والتحديات التى مر بها وكيف استطاع فى نهاية المطاف أن يتوج حياته بصورةٍ تفوق كل المبصرين، لقد تحدثت السيدة سوزان عن علاقاته بأقطاب السياسة والفكر والأدب والصحافة، فقد كانت علاقته بالأخوين عبد الرازق من أبناء محافظته علاقة وثيقة فى مصر وفى فرنسا، بل إن قرينة العميد لا تخفى إعجابها واحترامها لتلك العائلة الثرية من صعيد مصر التى وظفت الثروة فى خدمة الثقافة وكانت تعبيرًا دقيقًا عن المفهوم الصحيح للارستقراطية، وكان هناك عبد العزيز فهمى وأحمد لطفى السيد وغيرهما من أقطاب ذلك العصر فى كل المجالات، وتأتى السطور المتصلة بمحاكمة العميد أمام مشايخ الأزهر لتدل على أننا مازلنا فى بعض جوانب حياتنا الفكرية نمضى بسياسة محلك سر، فالاتهامات جاهزة، والأقاويل معلبة، والافتراء على الإسلام وحقيقته هى أمور موروثة فى تاريخنا الفقهى والثقافى، ولقد خاض طه حسين معركة ضارية فى شجاعة نادرة وصلابة مبهرة متسلحًا بمزيج من الثقافتين العربية الإسلامية والأوروبية المسيحية، ويكفى أن نتذكر أن الذى ساند الفتاة الفرنسية سوزان فى رغبتها فى الزواج من الأزهرى الكفيف بعد أن قدمته له فى باريس كان ذلك الخال رجل دين مسيحى وقال لابنة أخته بعد لقائه طه حسين إنك سوف تقترنين بعبقرى حقيقى ولا أراه غير ذلك، ويكفى أيضًا أن الأستاذ العقاد قد شهد له أنه وقف على قمة اللغة العربية كما صعد إلى الدرجات العليا فى اللغة الثانية الفرنسية وهو لا يعرف شكل الحروف فى اللغتين، فقد غاب عنه البصر قبل أن يستمتع بالأشكال والألوان، وظل كأبى العلاء المعرى رهين المحبسين، لذلك كان طبيعيًا أن تكون أطروحة الشيخ طه الأولى عن أبى العلاء حياة وشعرًا، وعندما أصر النحاس باشا زعيم الوفد على اختيار طه حسين وزيرًا للمعارف العمومية عند عودة الوفد إلى الحكم بعد طول غياب اعترض الملك فاروق فقد كانت تلاحق طه حسين شبهة انتمائه إلى اليسار، ولكن صلابة النحاس باشا فرضت قبول عميد الأدب العربى الضرير وزيرًا فى حكومة الوفد، وعندما طلب النحاس من الملك بعد ذلك منح طه حسين بك رتبة الباشاوية طلب الملك إرجاء الأمر ولكن النحاس بعفويته ونقائه نادى على وزير معارفه أمام الملك دون استئذان قائلاً (يا طه باشا اشكر جلالة الملك فقد أنعم عليك بالباشاوية) ووضع رأس الدولة فى حرج بالغ فهنأ طه حسين أمام الجميع مضطرًا، وأتذكر - إن لم تخنى الذاكرة - أنه قد نال الدرجة مع العميد وزير آخر جديد هو عبد الحميد عبد الحق، وعندما قامت ثورة يوليو 1952 مقتربة من بعض أفكار طه حسين ورؤيته الاجتماعية فإنه كتب مقالاً صحفيًا استهله بجملته الشهيرة (لم يكن الفقير راضيًا عن فقره ولا المريض راضيًا عن مرضه ولا الجاهل راضيًا عن جهله ..) دعمًا لتلك الثورة التى استبشر الناس بها خيرًا، وقد منحه جمال عبد الناصر أول جائزةٍ تقديرية فى الآداب عام 1958، وألقى العميد خطبة بين يدى الزعيم تعتبر وثيقة من وثائق الأدب العربى المعاصر، وقد تلقى تلك الجائزة المفكر المصرى عباس العقاد فى العام التالى وألقى كلمة مختلفة تفيض كبرياءً بالنفس واعتزازًا بالذات ولا عجب فإذا كان طه حسين هو موسيقار الكلمة فإن العقاد هو نحات الفكرة، وسوف تظل سيرة طه حسين متجددة فى ضمير أمته بل والإنسانية كلها، وأنا شخصيًا أعتز أن عيد ميلادى يصادف ذكرى مولده الخامس عشر من نوفمبر، ومازال بعض زملائنا الكبار يذكرون بعضًا من حديث الأربعاء ولقد أهدانى رئيس الوزراء الراحل د.كمال الجنزورى اسطوانة صوتية عليها حديث للعميد يقطر عذوبة ورقة وتطل من بين كلماته ومضات الإيمان لمفكر إسلامى أدى العمرة النبوية فى حفاوةٍ من أهل الحجاز وحكامها وأدبائها، كما كرمته دولة المغرب ودول كثيرة اعترافًا بفضله واعتزازًا بعلمه، وأنا شخصيًا أداعب صديقى الذى ولدت معه فى نفس العام الدكتور جابر عصفور وأسميه حفيد طه حسين، لأنه كان تلميذًا نجيبًا للدكتورة سهير القلماوى التى كانت بدورها تلميذة قريبة من العميد الراحل للأدب العربى، وعندما رحل طه حسين عقب نصر أكتوبر نعاه أبو المسرح المصرى المعاصر توفيق الحكيم قائلاً: (لقد أبت روحه أن تغادر جسده قبل أن تغادر الهزيمة جسد الأمة).. رحم الله العميد وعصره ورفاقه ليبقى ملهمًا لقرائه وعارفى مكانته ومدركى قيمته شعلة للاستنارة وضوءًا يهتدى به طلاب الفكر والمعرفة والأدب، ويبقى طه حسين شامخًا بين رواد النهضة وقادة الفكر وزعماء الإصلاح.
نُشر المقال في جريدة الأهرام بتاريخ 22 يونيو 2021.
https://gate.ahram.org.eg/daily/NewsQ/813128.aspx