حضرت عشرات بل مئات المنتديات الثقافية والندوات الفكرية والورش المتخصصة فى موضوعات تتصل بعملى على امتداد عمرى، ولقد لاحظت أن معظم تلك الفعاليات غالبًا ما ينتهى أثرها بانتهاء اللقاء ذاته أو قد تظل ذات تأثيرٍ لفترات محدودة وذلك وفقًا لقوة الدفع التى خلفتها تلك اللقاءات الفكرية، ولذلك فقد أصبحت أشعر أحيانًا بعدم جدوى مثل تلك المناسبات معتبرًا أنها رسالات إعلامية لا تؤثر فى مضمون المشكلات وطبيعة الأزمات، فالأصل هو أن نتصدى للمشكلة أو حقيقة الظاهرة دون الاكتفاء بالدوران حولها أو الحديث العام عنها، ولنا فى هذا السياق عدد من الملاحظات:
أولاً: إن كثيرًا من هذه اللقاءات تتسم بالعمومية - ولا أقول السطحية - وتكتفى بطرح عباراتٍ رنانة توحى بأن الأمور على وشك الحل أو أن هناك قراراتٍ سحرية سوف تؤدى إلى تفكيك عناصر الموضوعات المطروحة وتؤدى بالتالى إلى سبر أغوارها والوصول إلى قراراتٍ إيجابية وحلولٍ مستقرة بشأنها، وقد يكون الأمر غير ذلك، ولكن أجواء المناقشات المفتوحة توحى بأن مجرد الحوار فى حد ذاته هو خروجٌ بالمشكلة من إطارها المغلق إلى الواقع المفتوح سياسيًا وإعلاميًا.
ثانيًا: إن كثيرًا ممن يحضرون هذه الورش الفكرية والمنتديات ذات الطابع العلمى لايكونون متخصصين فيما هو مطروح أمامهم ويكتفى كل متحدث فيهم ببعض العبارات الاستعراضية والأطروحات الهامشية وتبقى المشكلة على ماهى عليه، بينما نريد دومًا أن تكون هناك حلول عملية للقضايا والمسائل التى تتصدى لها تلك المنتديات الفكرية من حينٍ لآخر، وأنا أدعو هنا إلى أن تأخذ تلك اللقاءات شكل الدوائر المغلقة بين مجموعاتٍ صغيرة من المتخصصين الشباب الذين يتناولون الموضوع بتفاصيله خصوصًا إذا كانوا مجموعة تعرف طبيعة الأمر كل فى تخصصه حتى يكون ناتج كل حلقة مغلقة أو حتى كل دائرة عن بعد مطابقًا لمستوى الحال ومتماشيًا مع التوقعات المنتظرة من مجموعة العقول المشاركة فى هذا النوع من الدراسات.
ثالثًا: إن معظم هذه المنتديات لا تتمتع بالحرية الكافية للتفكير أو التعبير وتبقى دائمًا حبيس الهامش المتاح بل قد تتجاوز ذلك إلى تحويل عملها إلى وصلات من النفاق السياسى الرخيص وإصدار بيانات ختامية ترضى أولى الأمر ولكنها لا تقدم ولا تؤخر فى حلحلة المشكلة وإمكانية الوصول من ذلك إلى طريق للخروج منها ومعالجتها بشكل صحيح، ولقد شاعت فى السنوات الأخيرة آراء تتحدث عن حقوق الإنسان ورعاية الأقليات والتمكين للديمقراطية وتحرير المرأة، وأنا أطالب مخلصًا فى هذه النقطة تحديدًا بأن تكون هناك هوامش واسعة لحرية التفكير خصوصًا فى القضايا المتصلة باستشراف المستقبل لأن الدراسات الاستباقية أصبحت ملحة، فالمستقبل يطل علينا من الحاضر الذى نعيشه كما أن إيقاع الحياة يبدو شديد السرعة وتحمل الأيام مفاجآت يصعب التنبؤ بها، لذلك كله فإن مناقشة البحوث العلمية المتصلة بمستقبل الإنسان وحياته فى كل المجلات أصبحت أمرًا ضروريًا لا ينبغى تجاهله.
رابعًا: إن انتقاء العناصر المشاركة فى كل ورشة فكرية أو منتدى متخصص يحتاج بالدرجة الأولى إلى من يدركون طبيعة العصر والتحديات المحيطة بالإنسان والمخاطر المنتظرة من قضايا رئيسية مثل تغير المناخ وتلوث البيئة وفشل الديمقراطية ومشكلات العالم الرأسمالى فضلاً عن نقص الطاقة وندرة المياه والصراعات القائمة حولها والتى من المتوقع أن تأخذ حجمًا أكبر فى العقود القادمة، وعندما يتحدث المتخصص المدقق فإن المفكر صاحب الرؤية الشاملة يكون قادرًا على اقتحام تلك القضايا المهمة برؤيته الواسعة بعد أن قدم له المتخصصون معلوماتٍ كاملة وتفاصيل مدروسة.
خامسًا: يجب أن نعترف أن مستقبل البشرية ملبدٌ بالغيوم ومعرض للعواصف تتنازعه الأهواء وينذر فى مجمله بصراعاتٍ ضخمة ومشكلاتٍ بغير حدود، ويكفى أن نتأمل الغزو الوبائى الذى تعرضت له الإنسانية فى كل مكان وفى ذات الوقت تقريبًا فقد نشر الخوف وأشاع الفزع وكبد العالم وطنيًا ودوليًا خسائر فادحة، عندئذٍ ندرك جيدًا لماذا نحن قلقون من المستقبل، مطالبون بتكريس الأبحاث والدراسات وتوظيف ورش العمل حماية للأجيال القادمة وذلك من خلال الاعتراف الكامل بالمشكلات القائمة والأزمات القادمة بل والتداعيات المتوقعة، فالعالم يتضخم والمشكلات تتراكم ولابد أن تكون هناك على الجانب الآخر حلول جديدة غير تقليدية بطبيعتها بل وتبدو خارج الصندوق فى كل ما نسعى إليه ضمانًا لمستقبل أفضل ورغبة فى توظيف البحث العلمى والتقدم التكنولوجى لخدمة الإنسان فى كل مكان.
من هذه الملاحظات نستطيع أن نقرر أن عالمنا العربى ينبغى أن يستجمع قواه وأن يعطى البحث العلمى ما يستحقه من اهتمام ورعاية مع نهضة تعليمية عصرية تضعنا فى مصاف الدول الكبرى التى تدرك مستقبلها وتعرف ما ينتظرها على المستويين القريب والبعيد، والأمر يحتاج هنا إلى درجة أكبر من الانفتاح على العالم وتبادل الخبرات والتجارب مع الآخرين فضلاً عن إجراءات بناء الثقة المتبادلة بين الفئات والطبقات فى كل المجتمعات، بقيت كلمة - أخيرة وهى ضرورة يتعين علينا نحن العرب فهمها - وأعنى بها فك الاشتباك بين الحاضر والماضى بحيث نتوقف عن الحديث الدائم حول أمجادنا وليكن حديثنا المستمر عن الحلول المطلوبة لمشكلاتنا الراهنة والآفاق المفتوحة أمام مستقبلنا، فالحاضر سوف يكون هو الأمس غدًا ولا مجال للجمود والتوقف واتخاذ ذرائع ظالمة لديننا وثقافتنا وفكرنا وحصيلة خبراتنا، فهذه كلها عوامل تدفع إلى التقدم ولا تشد إلى الوراء.. مرحبًا بالورش الفكرية سبيلاً لترشيد الرؤى وفتح الآفاق والدخول إلى فضاء الاستنارة والتحرر من قيود الماضى وأغلال المعاناة التى عشناها طويلاً، وقد حان الوقت لكى نخلع ذلك الرداء ونمضى مع روح العصر متألقين بالحداثة باحثين عن الحرية مؤمنين بالإنسان.
نُشر المقال في جريدة الأهرام بتاريخ 29 يونيو 2021.
https://gate.ahram.org.eg/daily/NewsQ/813957.aspx