كتبت فى مقدمة مؤلف أصدرته منذ أكثر من ربع قرن بعنوان «ليالى الفكر فى فيينا»، أن المدن كالنساء لكل منهن بهاؤها وجمالها وسحرها، وأنا أظن أن هذا القول صحيح للغاية، فالمدينة، كوحدة بشرية وكيان سكانى وطراز معمارى وموقع جغرافى وتراث تاريخى، تشكل فى مجموعها هوية مستقلة وشخصية ذاتية تنفرد بها كل مدينة عن غيرها، فالقاهرة تبدو للكثيرين- مصريين وعربًا وأجانب- بمثابة متحف كبير تختلط فيه الطرز الرائعة من فاطمية إلى مملوكية إلى خديوية، وتحمل المدينة على كاهلها تراثًا ضخمًا تتميز به قاهرة المعز، وفى جولات عملى الدبلوماسى شهدت عواصم عديدة ومررت بمدن كثيرة وخرجت بانطباع مؤداه أن المدينة الرائعة تبقى فى ركن خاص من الذاكرة لا تبرحه أبدًا، وذلك شأن لندن معى، فهى أول مدينة عشت فيها خارج بلادى، وإن كنت قد شددت الرحال قبل ذلك فى أول رحلة بالطائرة إلى الجزائر عام 1966، ثم تجولت فى دول شرق إفريقيا على مدى عشرة أيام حاملًا الحقيبة الدبلوماسية عام 1970، لذلك كان وصولى إلى العاصمة البريطانية فى آخر أغسطس عام 1971 بمثابة نقلة نوعية ضخمة فى طريقة تفكيرى وأسلوب حياتى، ولقد انبهرت بالحياة الأوروبية والنمط الإنجليزى فى التفكير ووجدت بعد ذلك أننى حققت فيها كثيرًا من أهدافى، سواءً فى الدراسة للحصول على الدكتوراه كما أنجبت فيها ابنتىّ وتكونت لى من خلالها مجموعة ضخمة من المعارف أوروبيين وعربًا ومصريين كما عدت بحصيلة كبيرة من الخبرات فى مجالات متعددة، واكتشفت أن تمسك البريطانيين بالتقاليد هو أمر حافظ على شخصية المدينة وطرازها المعمارى وتنسيقها الحضارى، وعندما عملت فى الهند اندهشت كثيرًا حين رأيت مدينة (سملا) باعتبارها مدينة رأسية يصعد إليها الناس بالحبال وتبدو فيها المنازل والنوادى والمقاهى والمطاعم وكأنها معلقة فى الجو، وهى مدينة تاريخية شهدت توقيع اتفاق تقسيم شبه القارة الهندية، ولابد أن اعترف أيضًا أن هبوطى فى مدينة النور باريس كان صدمة حضارية لى حيث وقفت أمام برج إيـﭬل مشدوهًا كقروى ساذج هبط المدينة لأول مرة، وما دمنا نتحدث عن المدن فإن مدينة إسطنبول هى الأخرى قد استأثرت منى بدهشة بالغة حين زرتها لأول مرة وسمعت صوت المؤذن فى سماء أوروبا وجلست على ضفاف البسفور وكأنما أناجى آل عثمان وأتذكر أن هذه المدينة قد حكمت العالم الإسلامى لعدة قرون، ثم أتطلع إلى قباب القصور الرائعة ومآذن المساجد السامقة تلخص تاريخ العصر العثمانى كله، وعندما زرت نيويورك شعرت بالتضاؤل أمام ناطحات السحاب وشوارع المدينة المقسمة طولًا وعرضًا فى نمط خاص لم يكن معهودًا لدى وإن كان الإيقاع السريع للحياة فيها قد أقلقنى فى البداية إلا أننى شعرت أن نيويورك هى أخطر مدينة فى العالم! وأقرر أيضًا أن موسكو قد أصابتنى بدرجة عالية من الإعجاب لمبانيها الضخمة وشوارعها الواسعة ومازلت أشعر بالامتنان للرئيس الروسى الذى شيّد مسجد موسكو الكبير فى السنوات الأخيرة، وقد أديت صلاة الجمعة فيه وراعنى التنظيم الدقيق لدخول السيارات وتحرك المصلين بانتظام، أما مدينة فيينا التى عملت سفيرًا لبلادى فيها فإن درجة الرقى المتناهية وتنظيمها الرائع ونظافة أرضها واختفاء التلوث من جوها كانت كلها مظاهر متناقضة تمامًا مع حياة قادم من قاهرة العشرين مليونًا، ولا أنسى أبدًا انبهارى بعدد من المدن الإيطالية خصوصًا فى إقليم (توسكنى) فى الشمال عند حدودها مع النمسا، كما أن المدن المغربية فاس ومراكش والدار البيضاء والرباط ومكناس وطنجة وغيرها، عكست كلها أمامى تراكمًا تاريخيًا وإنسانيًا لا ينسى، فلكل مدينة نمط خاص ومزاج مختلف ومذاق تنفرد به، ولقد زرت الصين واليابان ولفت نظرى العدد الهائل من الدراجات فى العاصمة الصينية ودقة المترو فى العاصمة اليابانية، أما كوريا الشمالية فقد أفزعتنى حالة البشر وهم يتحركون بابتسامة شاحبة فى ظل طاعة عمياء وحياة صعبة، وعندما زرت جزيرة مالطا كنت أقول لسفيرتنا القديرة فاطمة الزهراء وقتها إننى أخشى من سرعة السيارة حتى نكاد نسقط فى البحر بسبب صغر الجزيرة التاريخية العريقة، أما أثينا أم الديمقراطيات وحكومة دولة المدينة ومبتكرة الأوليمبياد فهى أقرب المدن إلينا حتى تكاد تكون امتدادًا للإسكندرية فى عصور ازدهارها وتألقها عروسًا للبحر المتوسط منذ أكثر من قرن مضى.. تلك هى جولة بين الساحرات الفاتنات فى مدن الكوكب الذى نعيش فوقه!.
جريدة المصري اليوم
https://www.almasryalyoum.com/news/details/2365444