لقد أسرفنا فى استخدام تعبير ثورة أمام كل حدثٍ مفاجئ وتوهمنا أن كل محاولةٍ للتغيير تندرج فى عرف البعض تحت مفهوم الثورة، وأنا لا أكاد أرى فى تاريخنا الحديث أحداثًا كبرى ينطبق عليها تعبير ثورة إلا تلك التى أحدثت تغييرات حقيقية وتحولات جذرية وتضمنت فى جوهرها الفكرى برنامجًا إصلاحيًا أو هدفًا قوميًا تواضع عليه الناس والتفوا حوله، فالثورة ليست مجرد تغيير مفاجئ أو عنيف ولكنها تحولٌ مدروس تتجاوب معه الأمة من أجل غاياتٍ محددة، وقد خرج المصريون فى عام 1919 بتلقائية وطنية واضحة أكسبت حركة الجماهير من القاعدة إلى القمة مدلول الثورة ومفهومها المتفق عليه وفقًا لطبيعة المرحلة والظروف السياسية التى تحيط بها وتؤثر فيها وتعطيها المضمون الحقيقى لكلمة ثورة.
كذلك فإن الثورات الكبرى للمصريين التى ارتبطت بعام 1952 قد اكتسبت مدلولها الثورى لا من جماهيريتها فقط ولكن من الزخم الضخم والتحولات الجذرية فى حياة الدولة المصرية حينذاك، ونلاحظ هنا أننا عندما نستخدم تعبير الثورة فإننا نقف موقفًا محايدًا من أفكار كل منها ومبادئها فالذى يعنينا هو المدلول الأكاديمى المجرد للكلمة.
وعندما ننظر إلى خروج الملايين من المصريين فى الثلاثين من يونيو عام 2013 فإننا لا نجد ألصق بذلك الحدث من جماهيريته الكبرى والحشود العظيمة التى غطت أرض الوطن وبالتالى أكسبت ما جرى مدلول الثورة شكلاً وموضوعًا، لذلك فإننى لا أبالغ إذا قلت إن الثلاثين من يونيو يومٌ مشهود فى تاريخ الشارع المصرى يؤرخ لحركة الجماهير الهادرة بأوسع معانيها. ويكفى أن نتذكر التغيرات الضخمة فى مصر على المستويات الرسمية والشعبية فى إطار المجتمع كله لذلك فإن أحداث الثلاثين من يونيو سوف تظل حدثًا فارقًا فى تاريخ الأمة المصرية بالنظر إلى الإجراءات التى تلتها والآثار التى تركتها كما أنها تدل دلالة مباشرة على التجسيد الكامل والحقيقى لإرادة معظم المصريين، من هنا فإننا نطرح الملاحظات التالية:
أولاً: إن حجم الشعبية لأى حركة سياسية وما تكتسبه أحداثها فى إطارٍ جماهيرى هو بالضرورة أول المؤشرات لقيمة تلك الحركة ومكانتها، ذلك أن تطبيق المعايير الديمقراطية الحديثة - برغم فساد بعضها - وما يتردد حولها إلا أنها تبقى المؤشر الأفضل لقياس الرأى العام والالتزام بإرادة المواطنين.
وبهذا المقياس فإن الثلاثين من يونيو هو يوم فاصل فى حياة الدولة والمجتمع، ولو تأملنا السنوات الثمانى الأخيرة لهالنا حجم التغيرات الكبرى والإنجازات الضخمة حتى أن الذين يختلفون مع سياسات هذه الفترة لاينكرون إنجازاتها غير المسبوقة سواء على مستوى الإصلاح الاقتصادى أو الحرب على الإرهاب أو تشييد البنية الأساسية أو إقامة عاصمةٍ ومدن جديدة، فلقد كانت مصر بحاجة إلى تلك الحيوية المطلوبة لبلد تجاوز تعداد سكانه المائة مليون.
ثانيًا: إذا كانت ثورة 1919 ثورة شعبية خالصة لم يكن للقوات المسلحة دور مباشر فيها.
فإن ثورة 1952 على الجانب الآخر قام بها عسكريون تعبيرًا عن إرادة شعبية كانت قد تكرست واتضحت معالمها خصوصًا بعد هزيمة 1948 فى فلسطين فأفرخت النكبة كوادر عسكرية شابة ممن التحقوا بالكليات العسكرية قبيل الحرب العالمية الثانية وكانوا يمثلون شريحة أمينة من أبناء الريف والحضر وأولاد الأعيان ممن ينتمون للطبقة المتوسطة وجاءت ثورتهم تعبيرًا عن التوافق القوى فى مصر بين الجيش والشعب، لذلك فهى ثورة قامت بها القوات المسلحة وباركها الشعب.
أما أحداث الثلاثين من يونيو وما تلاها من قرارات الثالث من يوليو والإجراءات الثورية ذات الطابع الشعبى الذى اقترنت به فإنها تعبير قوى عن مفهوم الثورة بمدلولها الجماهيرى الواسع.
ثالثًا: لا أظن أن هناك تحولاً سياسيًا فى مصر أو حدثًا كبيرًا ترك بصماته دوليًا بذات القوة التى فعلتها ثورة 30 يونيو 2013 فلقد أسقطت مخططًا إقليميًا ضخمًا كاد يحيل المنطقة إلى مجموعة من الدويلات المتفرقة فى ظل سيطرة عثمانية تعيدنا إلى الوراء مئات السنين وذلك باعتراف وشهادة كل من كتبوا عن تلك الفترة وقرروا أن ما جرى فى مصر قد أجهض المخطط الدولى الكبير الذى شاركت فيه إدارة أوباما الأمريكية مع قيادة أردوغان التركية لإعادة المنطقة من جديد إلى السيطرة الغربية والنفوذ الأجنبي.
رابعًا: لقد أثبتت الثورة الشعبية فى الثلاثين من يونيو منذ سنوات ثمان أن حيوية الشعب المصرى دافقة ودائمة وأنه يغير الأوضاع حين يريد ويستطيع دائمًا خلق الإرادة الإيجابية التى تسمح له بالنهوض واقفًا من جديد أمام الكبوات والمكائد والمؤامرات لذلك استعاد المصريون ثقتهم بأنفسهم وأدركوا أن ذاتهم أقوى من الذين يريدون بهم شرًا أو يحاولون النيل من وطن هو أب الأوطان ملثما أن مصر هى أم الدنيا.
خامسًا: أظن أن الثورة الشعبية فى يونيو 2013 التى ملأت الدنيا وشغلت الناس قد حققت لمصر ما يمكن تسميته حق ثورة الإنقاذ.
وأنا أكرر دائمًا ما قاله رئيس الجمهورية الانتقالى المستشار عدلى منصور من أن مصر تحملت القهر السياسى لعدة قرون والضغط الاقتصادى لعدة عقود ولكنها لم تتحمل العبث الثقافى لأكثر من عام واحد.
فقد شعر المصريون بأنهم يتعرضون لعملية سطو كبرى على هويتهم القومية وشخصيتهم الوطنية فكان خروج المصريين رجالًا ونساءً، شبابًا وأطفالًا إلى الشارع فى أكبر حركة احتجاج عرفها تاريخنا الحديث بمثابة نقطة تحول تؤكد أن المصرى صبور ولكنه قادر على تغيير الأوضاع بأسرع مما يتوقع الآخرون.
كما أنه حمول ولكنه لا يقبل المساس بروحه الخالصة وفكره الوطنى وتراثه التاريخي.
.. إننى أقول ألا تستحق هذه الثورة أن نحتفى بها اليوم بعد سنوات اكتشفنا خلالها معدن الشعب المصرى وأصالته وقدرته على التغيير وصنع التاريخ وصياغة المستقبل؟!
نُشر المقال في جريدة الأهرام بتاريخ 6 يوليو 2021.
https://gate.ahram.org.eg/daily/NewsQ/814741.aspx