إن العيد الوطنى لفرنسا هو الرابع عشر من يوليو والعيد القومى للولايات المتحدة الأمريكية هو الرابع من يوليو وعيد الثورة المصرية عام 1952 هو الثالث والعشرون من يوليو ويضاف إلى كل ذلك يوم مجيد فى تاريخ مصر الحديثة وأعنى به الثالث من يوليو عام 2013 بعد أيامٍ ثلاثة من حشدٍ شعبى مصرى غير مسبوق تجلت فيه الإرادة المصرية وأعلن الفريق أول عبد الفتاح السيسى القائد العام للقوات المسلحة حينذاك بيانه التاريخى وسط كوكبة من رموز مصر الدينية والسياسية والحزبية، وبدأت مصر بعدها مرحلة الانطلاق حيث أقلعت طائرة الوطن فى سماوات الإصلاح السياسى والاقتصادى، وتشييد البنية التحتية وإقامة المدن الجديدة والسعى للقضاء على العشوائيات، وفى ذات الوقت قاومت مصر الموجات الإرهابية فى بسالة لا تتوقف لكى تحمى حدودها فى يقظةٍ وحكمة وتواجه المكائد بصبرٍ وصلابة لأنها تدرك أنها واسطة العقد وعمود الخيمة فى المنطقة العربية بل فى الشرق الأوسط كله، وبذلك أصبح شهر يوليو فى تاريخ المصريين هو شهر التغيرات الإيجابية والتطورات الكبرى، ففى السادس والعشرين من يوليو عام 1956 أمم الرئيس الراحل عبد الناصر قناة السويس ردًا على سحب البنك الدولى قرض تمويله للسد العالى، وتعرضت مصر بعدها لعدوان ثلاثى غاشم استهدف مدن القنال خصوصًا بورسعيد فضلاً عن دخول إسرائيل إلى الأراضى المصرية فى شبه جزيرة سيناء، وعندها أمر الرئيس الأمريكى إيزنهاور إسرائيل بالانسحاب لأن مؤامرة العدوان الثلاثى فى مجملها كانت على ما يبدو أوروبية إسرائيلية جمعت بريطانيا وفرنسا والدولة العبرية خلف ظهر الولايات المتحدة الأمريكية، وفى السادس والعشرين من يوليو 2013 أيضًا خرجت جماهير الشعب المصرى مرة ثانية تجدد البيعة لقائدها، وتؤكد الإصرار على مواجهة جميع التحديات والمضى فى طريقٍ مستقيم لا تتراجع ولا تضعف ولا تلين، وإذا كان الأمر كذلك فماهو التفسير العلمى للعلاقة بين شهر يوليو والثورات المختلفة التى أخذت مسارًا واضحًا فى صيف النصف الشمالى من الكرة الأرضية؟ هناك عدة تفسيرات لعلنا نوجز منها مايلى:
أولاً: هناك نظرية تتردد كثيرًا حول تأثير الطقس فى حركة الشعوب بل ودرجة نهضتها وترى أن اعتدال الطقس وتوقف الأمطار فى بعض المناطق هو عامل أساس فى حيوية الأمم، مؤكدين أن الجماعات البشرية تثور وتتحرك غالبًا مع مطلع الربيع وبداية شهور الصيف، وأنا أظن أنه يصعب التعويل على ذلك لأنه لاتوجد علاقة سببية مباشرة بين أحوال الطقس وطبيعة المناخ وبين حركة الأمم وحيوية الشعوب، بل إن هناك ثورات كبرى اندلعت فى الشتاء وحروبا عظمى دارت فى ظل الأمطار الغزيرة، وأصحاب هذه النظرية يعتمدون فى الغالب على بعض الدراسات المتعلقة بالحضارات المتعاقبة وازدهارها فى بلاد الطقس المعتدل. وهذه النقطة مردود عليها أيضًا، فالحضارة العربية الإسلامية ازدهرت فى بلاد ما بين النهرين فى ظل طقسٍ شديد الحرارة، والأمر نفسه بالنسبة للنهضة الأوروبية والتفوق الأمريكى فهذه المناطق لم تربط بين الطقس وبين ما يدور على أرضها، فالعلاقة بين الطقس والأحداث علاقة تفتقر حتى الآن للأسانيد العلمية اللازمة.
ثانيًا: نحن لا ننكر أن بداية الصيف فى دول شمال خط الاستواء هى بداية العطلات الوظيفية والمدرسية والجامعية وربما يرى البعض أن ذلك مبرر لاندلاع الحركات السياسية فى ظل حالة فراغ وفسحة الوقت، لذلك فإن هناك من يبرر الإضرابات والاعتصامات لهذا السبب، ولكن هذا القول مردود عليه أيضًا فالطلاب هم وقود المظاهرات لذلك فإن العطلات تصيب الحكومات المستبدة بالارتياح نتيجة انتهاء العام الدراسى، فالعلاقة بين عدم الاستقرار السياسى وبين التوقف الرسمى عن الدراسة والعمل قول يحمل التفسيرين فى الوقت نفسه، ولذا لايمكن التعويل عليه. وفى ظنى أن الشعوب تثور وفقًا لاعتبارات أخرى لا ترتبط بالمناخ ولا حالة الطقس ولا العطلات الدراسية والوظيفية.
ثالثًا: اهتم بعض الباحثين فى الدول الديمقراطية بعطلات المجالس النيابية التى تصبح مبررًا للشعور العام بأن البرلمان غائب وأن الشارع يمكن أن يكون بديلاً عنه، وهنا أتذكر مع ملايين المصريين أنه عندما انتهت الانتخابات النيابية عام 2010 بغياب تمثيل المعارضة بشكل يكاد يكون كاملاً فإن تلك المعارضة خرجت من قبة البرلمان إلى ميدان التحرير فكانت الحركة الشعبية فى الخامس والعشرين من يناير عام 2011، ولذلك فإن الربط بين عطلات البرلمان وبين الثورات هو ربط نظرى بحت، فالعبرة تكون بدرجة تمثيل المعارضة فى البرلمانات المختلفة قبل أى شيء آخر.
رابعًا: لقد ثار الشعب المصرى عام 1919 فى ظل رواجٍ اقتصادى ملموس حيث ارتفعت أسعار القطن فى بورصته بشكل يرضى المالك والفلاح معًا، ومع ذلك بلغ العنف ذروته فى مارس من ذلك العام دحضًا لنظرية كانت ترى أن الشعوب تثور لأسباب اقتصادية بحتة لا علاقة للأوضاع السياسية بها، ولقد تأكد للجميع أن الأمر مختلف من شعب إلى شعب ومن مناخ إلى مناخ، فالعبرة تكون بالبيئة السياسية والظروف المحيطة بالأحداث ولا أظن أنه صحيح أبدًا استنتاج الربط بين الأحداث الكبرى فى حياة الشعوب وبين المواقيت المختلفة. فالعبرة دائمًا تكون بالوصول إلى نقطة اللاعودة بين الشعب ونظام سياسى معين أو أوضاعٍ عامة تسود البلاد.
رغم ذلك كله يظل يوليو فى ضمير الشعب المصرى هو شهر الثورات والتغييرات والتطورات، إننا نسميه شهر تحرير الإرادة الشعبية من الأغلال والقيود.
نُشر المقال في جريدة الأهرام بتاريخ 13 يوليو 2021.
https://gate.ahram.org.eg/daily/NewsQ/815584.aspx