استقبل المغفور له الملك الراحل فيصل بن عبد العزيز وزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر، قبل أسابيع قليلة من اغتيال ذلك الملك العظيم في ظروف مأسوية، وجدير بالذكر أن ذلك الملك السعودي يعد علامة مضيئة في تاريخ المنطقة العربية كلها وأحد أبطال حرب أكتوبر المجيدة، سواء بالدعم المالي أو الحظر البترولي، ولا غرو فهذا الملك الراحل صاحب خبرة واسعة في السياسة الخارجية العربية، فقد تولى المهمة الصعبة على يد أبيه الملك عبد العزيز منذ عام 1926. وفي يوم لقائه مع كيسنجر عام 1975 دخل وزير الخارجية الأميركي وجلس في حضرة الملك فوجده صامتاً تماماً حتى تسرَّب القلق إلى قلب الديبلوماسي الأميركي، فإذا بالملك يقول له: «لقد تجاوزت السبعين من عمري وأريد أن أصلي في القدس قبل أن أرحل عن هذا العالم وعليكم أن تدركوا ذلك»، فارتج الأمر على كيسنجر وشعر بارتباكٍ شديد، ثم لقي الملك الراحل مصرعه بعد ذلك بأسابيع قليلة. ويهمني هنا أن أشير إلى أسلوب داهية الديبلوماسية الأميركية هنري كيسنجر صاحب نظرية ترك الأزمات كي تحل نفسها بنفسها بعنصر الزمن، والأخطر من ذلك أنه صاحب المقولة الشهيرة (Food for Crude) والتي تعني «النفط مقابل الغذاء» وهو ما أوحى لنا أن نطرح قضية الأمن الغذائي لدول الخليج العربي، إذ إن القدرة على تأمين مقومات «الأمن الغذائي» ومدى الكفاءة الاقتصادية دولياً هي مطالب خليجية ملحة على ضوء التطورات التي يحتويها المشهد الدولي المعاصر، إذ إن «الأمن الغذائي» الخليجي قد يواجه محنة قريبة بسبب سياسات اقتصادية دولية تقوم على رؤى سياسية جديدة، ولعلنا ندرك بداية أيضاً أن الغذاء للأمم والشعوب له أهمية حادة وجادة في تحديد مسار المستقبل لأي منطقة خصوصاً إذا كانت تعاني صراعات سياسية حولها، فالمعروف أن دول الخليج تتشابه اقتصادياً بحكم اعتمادها على ما نسميه الاقتصاد «الريعي» الذي تنتظم دخوله وفقاً لعوائد النفط الذي تمتلكه تلك الدول، إلا أن الدول العربية المعروفة كلها باستيراد الجزء الأغلب من غذائها من الخارج يجب أن تفكر أكثر من مرة في إمكانية الحصول على ذلك الغذاء في مقابل ما تملكه من ثرواتٍ طبيعية أخرى، وأن تدرك أن حاجة العالم الخارجي إليها يجب أن ترتبط بحاجتها هي أيضاً إليه، ولقد كان داهية الديبلوماسية الألماني الأصل الأميركي النشأة والجنسية هنري كيسنجر هو أول من استخدم التعبير الخطير (Food for Crude) وذلك في أعقاب حرب تشرين الأول (أكتوبر) 1973 وقرار الملك الراحل فيصل وإخوانه في الخليج باتخاذ قرار حظر البترول كسلاحٍ في المعركة ضد إسرائيل، وقد كان تعبير كيسنجر ذلك جرس إنذار يدق لمن يعنيهم الأمر ورسالة مغلفة للعرب أنه «إذا حظرتم البترول عنا فسوف نحجب الغذاء عنكم» وهو تهديد مستتر يعطي لقضية الأمن الغذائي لدى الدول العربية عموماً وفي دول الخليج المصدرة للبترول خصوصاً رسالة واضحة تدعوها إلى التفكير الجدي للتعرف إلى إمكاناتها التي تتمكن بها من الضغط عند اللزوم للحصول على احتياجاتها من المواد الغذائية لشعوبها التي لا تحترف الزراعة في معظمها ولا تتمتع بإمكانات واضحة في إنتاج الغذاء، خصوصاً في السلع الإستراتيجية التي لا يستغني عنها المواطن الخليجي في كل الأحوال، واضعين في الاعتبار أن هذه المنطقة الحساسة من العالم والمطلة على الخليج الذي تحوطه الصراعات والمنافسات والأطماع يتطلب من أصحاب الخبرة والدراية أن يبدأوا جدياً في تأكيد ضمان المستقبل الغذائي لتلك الدول، وهنا نود الإشارة إلى النقاط الآتية:
أولاً: إن حيازة «الثروة النفطية» لدول الخليج هي ورقة مهمة يجب أن تحسن استخدامها عند تحديد احتياجاتها من خلال الاتفاقات التجارية المتبادلة مع الدول الآسيوية خصوصاً، بل والدول الأفريقية والأوروبية عموماً، لأن مصادر الغذاء متنوعة وأساليب الحصول عليه متعددة فضلاً عن المؤثرات السياسية التي يحفل بها المشهد العربي عموماً والمشهد الخليجي خصوصاً.
ثانياً: إن السلع الإستراتيجية والحبوب الغذائية بدءاً من الرز والقمح وصولاً إلى مصادر العلف الحيواني تبدو كلها جزءاً لا يتجزأ في عملية تأمين مستقبل الأجيال الخليجية القادمة، والزر تحديداً الذي يسميه الخليجيون «العيش» مثلما يسمي المصريون ـ على سبيل المثال رغيف الخبز ـ هو سلعة أساسية لذلك لا بد من الالتفات إلى سلم الأولويات في قائمة الاستيراد الغذائي للجانب الخليجي.
ثالثاً: إن مبدأ «النفط مقابل الغذاء» الذي استخدمته الولايات المتحدة الأميركية وحلفاؤها مع العراق بعد سقوط نظام صدام حسين يدعونا إلى التفكير الواقعي في إمكانية التعامل معهم بالمثل، لأن الذي يريد أن يتحكم في الغذاء عليه أن يتصور أيضاً إمكانية التحكم في مصدر الطاقة الواردة إليه في المقابل.
رابعاً: إن على الحكومات الخليجية أن تفكر بوعي كامل في استخدام «العمالة الآسيوية» لديها كورقة ضغط عند تحديد اتفاقيات استيراد الغذاء من الدول الآسيوية الزراعية مثل الهند وباكستان وبنغلاديش وفيتنام وغيرها، لأن دول الخليج التي استقبلت هذه العمالة الأجنبية بسماحة منقطعة النظير في العقود الأخيرة تستطيع أن تلوِّح بذلك «الكارت» لاحتكار استيراد بعض السلع ذات الأهمية الخاصة للمجتمع الخليجي وعلى رأسها محصول الرز خصوصاً أن المنتظر منه من دولة الهند سوف يتراجع بسبب رغبة الأخيرة في الاحتفاظ به لاستهلاكها المحلي وهو ما سوف يؤدي إلى نتائج سلبية على وجود سلعة أساسية للمواطن الخليجي في أسواقه المحلية.
خامساً: إن الدخول في اتفاقيات تجارية طويلة الأمد في ما يخص السلع الغذائية المهمة أمر مطلوب وفي أقرب وقت، إذ يجب أن تتجه وفود خليجية إلى دولة مثل الهند وتطلب تخصيص مناطق زراعية لإنتاج محصول الرز مثلاً بالمقابل الذي يجري الاتفاق عليه بين الأطراف المتعاقدة، كما أن تجربة زراعة مساحات معينة من أراضي السودان ـ على سبيل المثال ـ وتخصيص إنتاجها للتصدير لدول الخليج هو حل مبتكر خصوصاً إذا جرى في ظل اتفاقيات ملزمة تحكمها مصالح متبادلة.
سادساً: إن بورصة الحبوب الغذائية تلزم خبراء الخليج العربي بضرورة المتابعة الذكية لمؤشرات الأسعار والدخول فيها بنوع من المزايدة ولو أدى ذلك إلى بعض المظاهر الاحتكارية لأنه لا تعلو على الغذاء أهمية أخرى إلا المياه التي هي الحياة!
سابعاً: يتعين على خبراء الخليج دراسة تصور واضح لمستقبل كل سلعة على حدة والبحث في مدى وفرتها والميزة النسبية للحصول عليها من الدول المتميزة فيها، إذ إن هناك سلماً للأولويات في السلع المختلفة لا يجعلها جميعاً على الدرجة نفسها من الأهمية، إذ إن لكل منطقة في العالم تفضيلات معينة ليست متشابهة بالضرورة وإلا لبارت السلع وانهارت الأسواق، فمدينة الإسكندرية في شمال مصر ـ مثلاً ـ هي الحد الفاصل بين ثقافتين في الغذاء، ثقافة «الرز» في شرقها وثقافة «الكسكس» في غربها، كما أن أهمية القمح في مصر مثلاً لا يعادلها إلا أهمية الرز في الخليج ـ كما أسلفنا ـ فالأمزجة ليست واحدة والأذواق الغذائية وعادات الطعام مختلفة من منطقة إلى أخرى.
ثامناً: إن وضع استراتيجيات طويلة ومستقرة للعلاقات مع دول التصدير الغذائي هي قضية مهمة تحتاج إلى الربط بين الرؤية السياسية والمصلحة الاقتصادية بحيث يخدمان معاً مستقبل الأمن الغذائي لشعب الخليج الذي تتقارب أذواقه وتلتقي تقاليده الغذائية بشكلٍ متوحد تقريباً، إذ إن طعام تلك المنطقة هو مزيج من المطعم الهندي والمطعم التركي مع تأثيرات عربية من بلاد الشام ومصر.
تاسعاً: إن تحريك الذوق الغذائي العام في منطقة الخليج ممكن أيضاً إذا لزم الأمر، إذ يجب الاتجاه على المدى الطويل للإقلال من التركيز على محصول واحد كالرز مثلاً وذلك بإدخال أطباق جديدة يمكن أن تشكل بديلاً له عند الضرورة (مثل المعكرونة وأنواع الباستا والبيتزا أيضاً).
عاشراً: لا بد من تأمين كل ما ذهبنا إليه بمجموعة اتفاقات قوية ومستمرة ومستقرة لأن العبث بالمقدرات الغذائية للخليج يمكن أن يؤدي إلى نتائج كارثية على البلاد والعباد والأجيال القادمة.
هذه رؤية موجزة للمؤثرات السياسية في قضية «الأمن الغذائي» لدى معظم الدول الخليجية وهي تستلزم درجة من التنسيق مع مجموعات جغرافية أخرى في المنطقة، خصوصاً أننا على مشارف أزمات اقتصادية واختناقات سلعية تعطي شعوراً عاماً بأن المنطقة مقبلة على تنافس تجاري بل ومواجهة اقتصادية لن تخلو من بعض المظاهر الاحتكارية، ولذلك فإننا ندعو دول الخليج العربي إلى إنشاء مجموعة عملٍ دائمة للبحث في كل سلعة على حدة، واكتشاف مصادر وفرتها وأساليب التعاقد عليها لضمان الحصول على المطلوب منها، ولا ننسى في النهاية أن الالتزام القانوني بالاتفاقيات الخاصة بالتبادل السلعي والتجارة البينية يجب أن تكون مستمرة ومستقرة وليست معرضة للاضطرابات السياسية والأنواء الاقتصادية والعواصف التجارية وكأنها أوراق في مهب الريح. إن وعي الخليجيين بهذه القضية المهمة وهي قضية «الأمن الغذائي» يشكل منعطفاً كبيراً في فهمهم للمستقبل وتعاملهم معه وتوظيف أدواته والإفادة من تجارب الماضي وخبرات الشعوب الخليجية عبر السنين.
د. مصطفي الفقي;
جريدة الحياة
تاريخ النشر: 27 مارس 2013
رابط المقالة: http://www.alhayat.com/article/410358/الملك-العظيم-يواجه-الديبلوماسي-اللئيم