استدعت أزمة سد إثيوبيا لدى المصريين ذكريات بناء السد العالى مع الفارق الكبير فى الحالتين، فالسد العالى لم يمثل ضررًا على غيره ولم يكن سببًا لذلك الحجم من المشكلات الذى شهدناه فى السد الإثيوبى، ذلك أن مصر دولة مصب فحجز المياه فى بحيرة ناصر لا يؤثر إلا على مصر صاحبة السد، ولم تكن هناك أضرار تلحق بباقى دول النهر، أما الأمر فى حالة السد الإثيوبى فهو مختلف؛ ذلك أنه يبدأ من دولة المنبع على النيل الأزرق فيؤثر تأثيرًا مباشرًا على دولتى المصب مصر والسودان، كما أن جدوى إقامة السد الإثيوبى بدعوى توليد الكهرباء ليست تبريرًا سليمًا لإقامة ذلك السد بهذا الحجم ولكننا نراه نوعًا من الكيد السياسى ومحاولة الإضرار بالآخرين، وربما كان التأثير على مصر وخنق التنمية على أرضها هو الهدف الخفى لأن توليد الكهرباء كان يمكن أن يتم بمجموعة سدود صغيرة تتولد عنها الطاقة ولا تتأثر فى الوقت ذاته مياه النهر المتدفقة عبر آلاف السنين فى مجراها المعروف شمالاً حتى الدلتا بفرعى دمياط ورشيد على ساحل المتوسط، وتلك صناعة إلهية خضعت فيها الطبيعة البكر لإرادة الخالق سبحانه حتى إننا نقول (بسم الله مجريها ومرسيها)، وقد ظل النهر يتدفق عبر مجراه الطبيعى حتى جاء حين من الدهر استغلت فيه إثيوبيا ظروف المنطقة والأوضاع فى مصر غداة ثورة يناير 2011 واستثمرت أديس أبابا حالة الفوضى التى سادت مصر فى العامين التاليين لتلك الثورة لكى تبدأ العمل دون تنسيق مع دول الحوض أو الرجوع لدولتى المصب، ولا يخالجنى شك فى أن الكثيرين من كارهى مصر والسودان قد همسوا فى آذان إثيوبيا المهيأة دائمًا لترديد الافتراءات والتجاوب مع النوايا السيئة بأن تسعير المياه يجب أن يبدأ مع القرن الحادى والعشرين بعدما حقق العرب ثرواتٍ هائلة من أسعار النفط فى القرن العشرين، وكأنما كتب الله على مصر والسودان أن يدفعا فاتورة الثراء العربى ثم يستعدان لدفع فاتورةٍ أخرى للثراء الإثيوبى المزعوم! وفى ظنى أن المقارنة بين المشروعين المصرى فى ستينيات القرن الماضى والإثيوبى فى السنوات العشر الأخيرة توضح أن بينهما أمورا متشابهة ولكن أسباب الاختلاف أقوى وأكبر بكثير، ونستعرض ذلك فى النقاط التالية:
أولاً: جاء السد العالى المصرى فى وقتٍ كانت فيه القاهرة قلعة لتحرير القارة ومنطلقًا لتأكيد حق تقرير المصير للشعوب وكان عبد الناصر زعيمًا إفريقيًا، فالزعامة الإقليمية تختلف عن الأنانية المحلية، نعم إن كلا السدين قد جرى بناؤه فى غمار حماس وطنى ومشاعر شعبية دافقة وذلك أمر طبيعى عندما يتمكن قائد الدولة من حشد جماهير شعبه فى اتجاه معين، ولقد رفعت الحكومتان المصرية فى القرن الماضى والإثيوبية فى القرن الحالى من الشعارات الملتهبة ما أدى إلى تعبئة الجماهير وراء هدفٍ تحلم به، فتحريك الشعوب أمر برعت فيه بعض الأنظمة فى غمار الالتهاب القومى والحماس الشعبي.
ثانيًا: يتشابه المشروعان أيضًا فى درجة التدويل لكلٍ منهما، فمشروع السد العالى ارتبط بتأميم قناة السويس وتحرك القوى الغربية لضرب المشروع الناصرى بالعدوان الثلاثى عام 1956، أما المشروع الإثيوبى فإنه يأتى فى غمار الصراع من أجل التنمية والإعلان الدائم عن الظروف الصعبة التى يعانيها الشعب الإثيوبى الفقير، ولا بأس من ذلك شريطة ألا يكون على حساب الغير خصوصًا أن مصر قد عرضت على الجانب الإثيوبى من البداية رغبتها فى دعم السد والمشاركة فى النواحى الفنية لإنشائه مع الاستفادة بتجربتها فى السد العالى، ولكن لأن النوايا غير خالصة فلم تقبل حكومة أديس أبابا ذلك ومضى الأمر على النحو الذى شهدناه حيث كانت إثيوبيا تتفاوض مع مصر والسودان دون إيقاف أعمال بناء السد بل المضى بسرعة فيها وهو ما يذكرنا بنموذج المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية بينما تكون إسرائيل ماضية فى بناء المستوطنات وتنفيذ سياستها التوسعية دون توقف، فالتشابه بين العقليتين كبير خصوصًا أن العلاقات الإثيوبية الإسرائيلية ذات خصوصية تاريخية معروفة.
ثالثًا: إن الأمر فى ظنى – وهذا اجتهاد خاص – أن الحل المحتمل الوحيد لأزمة سد إثيوبيا لن يأتى إلا فى إطار شبكة من المصالح المشتركة بين مصر والسودان وإثيوبيا بحيث تشعر أديس أبابا بأن هناك التزامًا جماعيًا بقضية التنمية فى الدول الثلاث وما أكثر المشروعات التى تحقق ذلك، ومازلت أتذكر ما قاله لى الدكتور عصام شرف رئيس وزراء مصر الأسبق عن حديثه مع رئيس مجلس الوزراء الإثيوبى الراحل ميليس زيناوى عندما زار القاهرة، وقد عرض عليه رئيس الحكومة المصرية مشروعًا مشتركًا لطريق برى يبدأ من الأراضى الإثيوبية ويخترق الأراضى السودانية والمصرية وصولاً إلى موانى البحر الأبيض المتوسط لتحقيق الحلم الإثيوبى فى التصدير إلى أوروبا خصوصًا أن بلادهم لا تطل على بحارٍ مفتوحة لاسيما بعد استقلال أريتريا، وقد أبدى رئيس الحكومة الإثيوبية رضاه عن هذا الاقتراح وسعادته به لأنه يجعل كل الأطراف رابحة، ولكن الأمر جاء غير ذلك ومضت إثيوبيا فى طريقها الأحادى بإرادة منفردة ضد الشرعية الدولية وقوانين الأنهار المعمول بها فى العلاقات المعاصرة.
إننا لا نعقد مقارنة بين السدين لإثبات تميز أحدهما على الآخر ولكن لتأكيد أن دولة السد هى التى تصنع الظروف المهيئة لبنائه وتذلل العقبات التى تقف فى طريقه بما فى ذلك قبول الآخر له مع احترام حصص الدول فى مياه النهر الخالد والتوزيع العادل لمياه النيل، وإذا لم تتمكن الدول الثلاث من الوصول إلى تسوية عادلة لهذه الأزمة شديدة الحساسية بالغة التعقيد فسوف يظل هناك نزيف دائم من الخلافات والصراعات وحالات التصعيد من كل الأطراف خصوصًا فى سنوات الجفاف، وفى ظنى أن الكل سوف يكون خاسرًا بمن فى ذلك أشقاؤنا فى إثيوبيا.
نُشر المقال في جريدة الأهرام بتاريخ 27 يوليو 2021
https://gate.ahram.org.eg/daily/NewsQ/817202.aspx