تتحدد درجة نجاح دبلوماسية أى دولة بما تستطيع أن تفتحه من قنوات تواصل مع الدول المختلفة والقوى المتعددة، وأتذكر أننى قلت ذات يوم إن رئيس أى دولة يفاخر عندما تستطيع طائرته الهبوط فى أى مطار بالعالم بلا استثناء، وفى ظنى أن الرئيس المصرى الحالى عبدالفتاح السيسى يستطيع ذلك، إذ يمكنه الهبوط فى طهران لأنه لم يسب الإيرانيين، وأن يهبط فى أنقرة لأنه لم يتطاول على العثمانيين الجدد رغم أخطائهم فى حق مصر فى السنوات الأخيرة، كما يستطيع أن يهبط أيضًا فى مطار الدوحة مرحبًا به.
بل أضيف إلى ذلك أنه يمكنه أن يلقى استقبالًا يليق به فى أديس أبابا عاصمة سد النهضة، لأن الرئيس المصرى المحترم يتحدث دائمًا عن سد النهضة بتأكيد حق الأشقاء الإثيوبيين فى التنمية مع احترام الحقوق التاريخية للشعب المصرى فى حصته من مياه النيل، ولذلك فإننى أشيد بالدبلوماسية المصرية التى يتولى وضع خطوطها العريضة الرئيس السيسى، ويقوم على تنفيذها دبلوماسى قدير متوازن للغاية هو السفير سامح شكرى، وزير الخارجية، ولابد أن أشيد هنا بقدرة مصر على الانفتاح على أشقائها العرب بغير استثناء تقريبًا وأشقائها الأفارقة دون تمييز.
كما أنها تحتفظ بعلاقات مستقرة وندية مع واشنطن وموسكو وبكين، فضلًا عن دور الاتحاد الأوروبى، وفى مقدمته فرنسا، مع تواصلٍ منتظم مع بريطانيا وعلاقات وثيقة مع اليونان وقبرص، بالإضافة إلى تعاون تقنى مع اليابان، وصلات طيبة مع الهند وباكستان وحتى دول أمريكا اللاتينية التى تبعد عنا كثيرًا تبدو أحيانًا قريبة منا بشكلٍ يدعو إلى الرضا، ولقد تعلمنا من أزمة سد النهضة عددًا من الحقائق أسجل منها اثنتين:
أولًا: إن حدود الدبلوماسية المصرية لا تقف أمام حدثٍ واحد، ولكنها تتحرك فى حيوية فى إطار مجالاتٍ متعددة، فمصر دولة محترمة فى المنظمات الدولية على تعددها وكثرتها، وهى أيضًا دولة ترفع مبادئ تتسق مع سياستها بالابتعاد عن التدخل فى الشؤون الداخلية للدول حتى لو كانت صديقة أو شقيقة، فالأمن القومى المصرى والمصالح العليا للبلاد هى التى تستأثر بالخطوط الحمراء فى تحركنا الدبلوماسى والعسكرى أيضًا، وقد علمتنا دروس أزمة سد النهضة أن كل من لم يساند موقفنا ليس بالضرورة عدوًا لنا ولكن لكل دولة حسابات المصلحة والموازنة بين المكسب والخسارة فى مواقفها تجاه أزمة مياه النهر، وهى بالمناسبة أزمة تعانى منها بعض أحواض الأنهار فى مناطق مختلفة من العالم، والدول المختلفة بدأت تبحث فى العقود الأخيرة عن عمليات تحلية مياه البحر كبديل تعويضى ولو إلى حدود معينة عما يمكن أن تفقده فى صراعات القرن الحادى والعشرين، قرن المياه، مثلما كان القرن العشرون هو قرن أزمات الطاقة، وفى مقدمتها النفط.
ثانيًا: لقد كتبت شخصيًا كثيرًا من المقالات حول موضوعى التحالفات الناقصة والسرعات المتفاوتة، إذ يمكن أن نجد دولًا كثيرة تتفق معنا فى بعض الأمور وتختلف معنا فى بعضها الآخر، وقد تكون تلك الدول حليفة بالمعنى الحديث للكلمة، وهو المعنى الذى يدور حول مفهوم الحلف الناقص، فليس من الضرورى أن تكون وجهات النظر متطابقة ولا حتى متقاربة، ولكن يكفى فقط ألا تكون متعارضة، أقول ذلك بمناسبة الدهشة التى أصابت كثيرًا من المصريين للموقف الروسى أثناء نظر مسألة سد النهضة فى مجلس الأمن، وأنا أظن أن موقف موسكو ليس عدائيًا تجاه القاهرة.
ولكنه متعاطف مع إثيوبيا بسبب المصالح المشتركة والدور الذى يمكن أن تلعبه أديس أبابا لخدمة سياسات موسكو فى شرق إفريقيا، فالمصالح هى لغة العصر ومرونة الحركة فى الانتقال من توجه إلى آخر تعنى أيضًا القدرة على تحقيق أكبر قدرٍ من المصالح لكل دولة وفقًا لأولوياتها، أما عن السرعات المتعددة فهى أن ما يمكن أن توافق عليه دولة ما اليوم يمكن أن تبتعد عنه أيضًا غدًا، لأن السياسات تعبر عن المصالح والتى هى بدورها تحتاج إلى قدرٍ كبير من الحركة المفتوحة وحيوية الانتقال دون خسائر من اتجاه إلى آخر.
إن من حقنا أن نفاخر بذلك التنسيق الذكى بين الدبلوماسية السياسية والدبلوماسية العسكرية فى بلادنا، والارتباط الواعى بين ميلاد القواعد العسكرية المصرية الجديدة فى جانب، وحركة الدبلوماسية النشطة فى جانب آخر، ويجب أن ندرك أن الدبلوماسية الخشنة ذات الطابع العسكرى هى الرصيد الذى تقف عليه الدبلوماسية الناعمة ذات الطابع السياسى، وفى الحدود الواقعة بينهما تتحرك السياسة الخارجية للدولة معتمدة على ما تملك من مقومات وما لديها من أرصدة مع اتساع مجال الحركة أمامها دون قيودٍ أو محاذير!.
جريدة المصري اليوم
https://www.almasryalyoum.com/news/details/2386133