عانت مصر- كغيرها من دول كثيرة- وجود العشوائيات على أطراف المدن حتى اشتهر تعبير «مدن الصفيح» في بعض الدول الآسيوية والإفريقية بل اللاتينية أيضًا مؤشرًا إلى مَن يسكنون في علبٍ مشوهة دون ارتباط بخطوط التنظيم أو تخطيط المدن، وقد ظلت تلك العشوائيات مصدرًا للقلق الاجتماعى والتوتر السكانى والشعور الدائم بغياب القانون واختفاء القواعد المنظمة لحياة البشر، ولقد أدى الانفجار السكانى في مصر خلال نصف القرن الأخير إلى تضاعف عدد السكان مرتين.
وأصبحنا أمام مأزقٍ بشرى تضيع من خلاله عوائد التنمية وتختفى فيه أسباب الإصلاح ويسيطر عليه فكر مجهول لا يعرف أين الطريق، وشاعت الجرائم، وظهرت التناقضات الاجتماعية، حتى إن بعض السيارات من أحدث طراز كانت تقف أمام المساكن العشوائية تعبيرًا عن القدرة الشرائية للبعض، ولكن عشوائية التفكير والرغبة في الخروج عن القانون والنظام تجعل بعض الناس يستسهلون ما يفعلون ويجدون متعة في تجاوز المألوف، لقد تحولت العشوائيات إلى قنابل موقوتة، فالفقر الذي يسيطر على بعضها يدفع أهلها إلى السعى نحو الجريمة وحيازة المخدرات وتعاطيها، بل الاتجار فيها.
فضلًا عن تسرب عناصر الجريمة من بين أحشاء تلك العشوائيات، إلى جانب غياب المرافق الأساسية للحياة الطبيعية للبشر، فلا مستشفيات ولا مدارس، بل ربما غابت حتى مصادر المياه والكهرباء والصرف الصحى، وهذه الحالة المزرية كانت دائمًا انعكاسًا لما هو قائم في عقول مَن تقع تحت أبصارهم تلك العشوائيات، وظل الحديث عن محاربة العشوائيات والقضاء عليها شعارًا يتردد وكلامًا يطول دون إجراءات حقيقية، حيث ظلت تلك المبانى العشوائية مصدرًا للجريمة ومبعثًا للمخاوف الأمنية والاجتماعية، ولم نرَ في تاريخنا الحديث ثورة عمرانية ونهضة إنشائية مثل التي عرفناها في السنوات الأخيرة، فقد نسفت الدولة عددًا لا بأس به من تلك العشوائيات وأقامت بديلًا لها مساكن على أحدث الطرز السكنية، وأوجدت فيها كل المرافق، بدءًا من المستشفيات والمدارس والصيدليات وحتى المساجد والكنائس التي حرصت الدولة على بنائها لتجعل من تلك العشوائيات السابقة أحياء عمرانية لا تخلو من جمال التنظيم وروعة البناء.
وها نحن الآن نتطلع إلى ضرورة اختفاء العشوائيات أيضًا من عقولنا وطرائق تفكيرنا حتى يمكن لنا أن نواجه روح العصر وأن نمضى في طريق الحداثة، فالتفكير المنظم والذهن المجدول والعقل المستنير والذاكرة المفهرسة هي أدوات العصر لحياة أفضل ومستقبل أكثر إشراقًا للطبقات الأكثر عددًا والأشد فقرًا، ذلك أن التفكير المنظم يمنح صاحبه وضوحًا كاملًا فيما يتصل بفقه الأولويات وفهم الفارق بين المهم والأهم والأكثر أهمية، فالفارق بين عقلٍ وآخر يكمن في ترتيب هذه الأولويات، والذى يستطيع به رفض التفكير العشوائى والإجراءات غير المحسوبة والتصرفات التي تفتقر إلى احترام القانون أو المضى وراء المصالح العليا للبلاد، ولعلى أستدرك هنا لأقول إن سكان العشوائيات مظلومون بالضرورة، فلم يجبرهم على ما فعلوا إلا انتفاء البدائل واختفاء الحلول الصحيحة أمامهم وترْكهم للقضاء والقدر، ولكن لحسن حظ البلاد والعباد أن جاءها رئيس حازم وصارم لا يقبل الخروج عن القانون، ولكنه يحمل في ذات الوقت عاطفة جيّاشة نحو أبناء شعبه بغير استثناء.
وهو لا يلقى باللائمة على الذين عاشوا في العشوائيات، ولكنه يحاول انتشالهم من معاناة طويلة إلى حياة عصرية كريمة مقبولة تليق بآدمية مَن ينتمون إلى وطن عريق مثل مصر العظيمة، التي رغم معاناتها والتفاف الآخرين حولها والتآمر على شعبها، فإن لديها رصيدًا بشريًا من العقول الهائلة وذوى الأفكار المنظمة الذين يستطيعون إعادة البناء وتحويل هذه العشوائيات إلى نسق عصرى من المبانى المقبولة والأحياء السكانية، التي تندمج في خريطة المجتمع ويعرف أطفالها المدارس ويعرف مرضاها الطريق إلى المستشفيات ويرتفع فيها الأذان وتدق أجراس الكنائس ولاءً لوطن هو أبوالأوطان.
إننى أطالب في هذه السطور بضرورة نبذ التفكير العشوائى واللجوء دومًا إلى الأسلوب العلمى والاحتكام إلى القانون سيد الموقف، مع مراعاة ذوى الدخول المحدودة وتحقيق مبدأ «تكافل وكرامة»، الذي يصون الأعراض ويحمى الأطفال والنساء ويرفع رايات الوطن عن يقين وإيمان.
جريدة المصري اليوم
https://www.almasryalyoum.com/news/details/2399133