تناولت المقالة الماضية الجلستين الافتتاحية والأولى من الندوة المهمة التى دعا لها الدكتور مصطفى الفقى مدير مكتبة الإسكندرية ونظمها مركز الدراسات الاستراتيجية بالمكتبة، وركزت على الخيط الذى جمع العروض التى قدمها فى الجلسة الأولى الأساتذة الدكتورة لطيفة الزيات والدكتور محمد عفيفى والأستاذ أحمد الجمال وهو أن العنصر المشترك فى التجارب التى عرضوها رغم تباينها هو أنها انتهت بفعل خارجى إلى درجة إثارة التساؤل حول وجود ڤيتو خارجى على نهضة مصر، أما الجلسة الثانية فكان موضوعها مرتبطا مباشرة بهذه القضية (هوية مصر والتحديات الإقليمية والدولية) وتحدث فيها كل من الأستاذ الدكتور على الدين هلال وكاتب هذه السطور والسفير الدكتور محمد بدر الدين، وقد بدأ الدكتور هلال بالإشارة للحلم المصرى بدولة حديثة منذ القرن الـ ١٩ وكيف كان الجيش دوما فى قلب عملية التحديث التى ارتبطت دائما بزعيم واتسمت بالمركزية، ثم انتقل إلى التحديات التى واجهتها تجربة يونيو٢٠١٣ وحصرها فى ثلاثة وهى التطرف وما أفضى إليه من انقسام وعنف، ومواجهة آثار غلبة منطق الجماعة على منطق الدولة، وكذلك مواجهة محاولة إذابة الهوية المصرية فى سياقات أوسع، وقد أدت هذه التحديات إلى وصول الخلاف السياسى إلى حد الانقسام الاجتماعى، ثم استعرض الإنجازات الضخمة لما بعد يونيو٢٠١٣ وركز على إحياء الوحدة الوطنية وتمكين المرأة، وشدد على ضرورة ترسيخ هذه الإنجازات إذا كنا نؤمن حقا بالجماعة الوطنية المصرية، ثم انتقل للتنبيه إلى التحديات التى تواجه هذا الإنجاز الضخم وحددها بخمسة، هى إدارة التوقعات بمعنى تحقيق التوازن بين سقف التوقعات وبين ما يمكننا إنجازه، والزيادة السكانية التى حذر من التعامل معها بمنطق الحملات الإعلامية، ومحو الأمية التى لا تخفى تداعياتها السلبية على أى مشروع نهضوى، وتحدى تغير القيم الذى يمكن أن يحدث إرباكات بلا حدود، وأخيرا التحدى الذى وصل تحليله بالجلسة الأولى وهو خطر الإجهاض أو التوقف فى منتصف الطريق.
وقد اتصل الموضوع الذى تحدثت فيه مباشرة بالخيط الذى جمع بين المداخلات الأربع التى سبقتنى وهو خطر الإجهاض الخارجى فقد اخترت له عنوان إعادة بناء الدولة المصرية فى بيئة إقليمية مضطربة، وفيه أشرت إلى الاختلاف البين بين التهديدات الخارجية التى تواجهها مصر الآن وبين تلك التى واجهتها منذ الحرب العالمية الثانية وطيلة قرابة نصف القرن، وفى تلك الحقبة كان التهديد الرئيسى هو إسرائيل وداعموها، أما الآن فإن التهديدات تأتى من الاتجاهات الاستراتيجية كافة، وإذا تتبعناها بدءا من الغرب فى اتجاه عقارب الساعة فهناك تهديد الإرهاب الذى أصاب مصر غير مرة بسبب غياب الدولة فى ليبيا والتدخل التركى فيها ثم تهديدات المشروع التركى فى شرق المتوسط الذى بات موضعاً لأهم مصادر ثروة الغاز المصرية ناهيك عن احتضان تركيا لفلول الإخوان المسلمين، ثم تهديد كيانات الدول العربية فى المشرق العربى والجزيرة واحتمال التغير الجذرى فى البيئة الاستراتيجية لمصر حال نجاح مشروعات تفكيك هذه الدول، ثم تحدى الحوثيين فى اليمن وما سببه بالإضافة إلى تفكيك الدولة اليمنية من اضطرابات تهدد المدخل الجنوبى لقناة السويس وأخيرا تهديد مشروع السد الإثيوبى، وفى مرحلة ما أُضيف لهذا كله سياسات نظام البشير فى السودان، وأكدت بعد ذلك أن مصر اتبعت فى مواجهة ذلك سياسة بالغة الرشادة تمثلت أهم عناصرها فى أولوية حماية الأمن المصرى، وحماية كيانات الدول العربية بكل السبل الممكنة رغم ما سببته لها هذه السياسة من توترات فى علاقتها مع دول عربية صديقة، والإصرار على التسوية السلمية للمنازعات ما استطاعت لذلك سبيلا، وتنويع شبكة علاقاتها الدولية، واستندت مصر فى تنفيذ سياستها هذه إلى منظومة من «القوة الذكية» اعتمدت من جانب على القوة العسكرية لمصر التى تحظى بتصنيف عالمى رفيع وقوتها الناعمة التى تتمثل فى قدرتها الدبلوماسية التى ظهرت بوضوح تام فى المواجهة الفلسطينية-الإسرائيلية الأخيرة ومكانتها الثقافية والإعلامية وإن كنت أشرت لجوانب قصور فيها وقدرات أخرى مهمة كقطاع الإنشاءات الذى يسجل حضورا لافتا فى إفريقيا والوطن العربى، وأوضحت أن هذه السياسة ضربت عرض الحائط بفكرة الكمون الاستراتيجى التى روج لها البعض على أساس أن تتفرغ مصر لبناء الداخل، فعن أى كمون نتحدث فى بيئة زاخرة بمشروعات إقليمية وعالمية لها أهدافها المتعارضة مع المصالح المصرية؟وأشرت إلى أن لينين عندما دافع عن - ونجح فى تطبيق - هذا المبدأ عقب الثورة البلشفية فلأن تروتسكى كان يرفع شعار الثورة العالمية أما مصر فلا تريد سوى حماية أمنها، واعتبرت أن هذا هو الضمان ضد محاولات الإجهاض الخارجى وإن كان لا يكفى وحده للحماية منها، فمصر القوية مصدر قلق لكل القوى الطامعة فى المنطقة، ثم قدم السفير محمد بدر الدين مداخلته التى عرض فيها ملامح الوضع الدولى الراهن وأهمها تراجع الهيمنة الأمريكية وصعود الصين وإحياء روسيا وتذبذب الاتحاد الأوروبى، وكذلك لبروز تحديات عالمية جديدة ككوڤيد - ١٩ والمناخ وتداعيات الذكاء الاصطناعى وسيولة التحالفات، وفى إجابته عن سؤال ما العمل؟ أكد أنه لا مناص من التمسك بحيادنا وامتداد مصالحنا فى كل اتجاه وتنشيط مشاركتنا الدولية وتحمل مخاطر تكلفة الدور وأعبائه، ثم كان مسك ختام الندوة بالجلسة التى تحدث فيها الأساتذة الدكاترة أحمد زايد وسعيد المصرى وداليا الشلقامى فى موضوع المواطن المصري: أولويات اليوم وتحديات الغد وهو غاية جهود التنمية وإعادة البناء، وقد قدموا ثلاث مداخلات بالغة الثراء ليس بمقدورى أن أعرض لها بأمانة لعدم التخصص وأتمنى على ثلاثتهم نشرها على أوسع نقاط فى أوساط النخبة المصرية والرأى العام.
جريدة الأهرام
https://gate.ahram.org.eg/daily/NewsQ/819978.aspx