جاء تشكيل الحكومة اللبنانية الجديدة بعد عامِ من الانتظار، فى ولادة عسيرة لدولةٍ عانى شعبها ما لا يستحق، أقول ذلك وقلبى على لبنان الرائع الذى كان ملاذًا للعرب وغير العرب حتى استحق تسمية سويسرا الشرق، وقد عانى ذلك البلد الصراعات المتواصلة والخلافات المحتدمة بين طبقةٍ من السياسيين يمتد تأثيرها لما يقرب من نصف قرن ولبنان ينزف دمًا كما شهد خلالها حربًا أهلية بدأت بمواجهة مع اللاجئين الفلسطينيين ثم تحولت إلى صراعٍ طائفى حاد حتى انتهت بصدام ميليشيات ترمز لبارونات الحرب الذين يحترفون السياسة ويعتبرون السلطة مظهرًا للوجاهة المتوارثة وجواز سفر لتكوين الثروات، ولا أستطيع أن أدمغ الجميع بهذه الأوصاف فقد يكون من بينهم من يرعى الله والوطن ويحترم القسم، ولقد تدهورت الأوضاع فى ذلك القطر العربى الرائع خصوصًا بعد الانفجار المروّع فى ميناء بيروت فى خريف 2020 والذى كان بمثابة جرس إنذار قرعه الشعب اللبنانى لكى يقول للجميع يكفى ما جرى وأنه لابد من وقفة وطنية شريفة تعيد الأمور إلى نصابها وتأخذ بيد المواطن اللبنانى العادى إلى حياة تليق به وبتاريخه وقدراته، فاللبنانى غالبًا هو مواطن موهوب خصوصًا فى مجالات السياحة والتجارة وإدارة الأعمال فضلاً عن عشقه للفنون وتعلقه بالآداب وغرامه بالموسيقى، إنها لبنان التى وقف منها الزعيم العربى جمال عبد الناصر موقف التقدير والاحترام، وهى أيضًا التى صاح من أجلها الزعيم المصرى أنور السادات قائلاً: ارفعوا أيديكم عن لبنان، إنها لبنان فيروز وجبران وميخائيل نعيمة وخليل مطران ووديع الصافى وصباح وغيرهم من عشرات الأمثلة للتميز اللبنانى وأناقة الشخصية التى عرفناها عن أحفاد الفينيقيين، وتظل شجرة الأرز رمزًا بين جبال لبنان ووديانه تشير إلى ما أسبغ الله به على ذلك البلد الشقيق من نعمه، حتى أننى أظن أحيانًا أن ما يتعرض له اللبنانيون هو نتيجة حقدٍ من الجيران غير العرب الذين لا يريدون له سلامًا أو استقرارًا، وهاهو ذلك الشعب المتميز يعانى ظروفًا اقتصادية موجعة مع انخفاض جنونى لقيمة الليرة اللبنانية أمام العملات الأخرى فضلاً عن أزمة المحروقات بالإضافة إلى اختفاء بعض السلع الأساسية فى ظل محنة كورونا وما صاحبها من نقص الأرزاق إلى جانب حالة القلق تجاه المستقبل الغامض والتدخلات الأجنبية الضاغطة والاستهداف من جانب قوى كثيرة لاتريد للبنان أن يظل رمزًا شامخًا فى عروبته وازدهاره، ونحن نتحدث اليوم عن لبنان الذى نرجو له أن يتعافى فى أقرب فرصة ليستعيد أمجاده ويسترد شعبه مظاهر شهرته التى عرف بها على مر التاريخ والمهارات التى يجيدها منذ عرفناه، وهنا أسجل ملاحظتين مهمتين:
أولاً: إن سلامة لبنان لن يحققها إلا اللبنانيون ومن يتصور غير ذلك فهو واهم، ولقد جرت محاولات كثيرة لرأب الصدع ولم الشمل وإقصاء الطائفية عن لبنان العصرى الذى عاش على ميثاق 1943 حتى جاء اتفاق الطائف فى ثمانينيات القرن الماضى لكى يعيد الجميع إلى الطريق الصحيح، ولكن ليس كل ما يتمنى المرء يدركه فالعقبات كثيرة وحسن النية قد لا يكون متوافرًا أيضًا فى بعض الظروف، ولقد تعود اللبنانيون على غياب الحكومات وصراع الساسة والاحتراب الداخلى حتى تولدت لديهم مناعة ضد اليأس والاكتئاب، فالمرح اللبنانى يبقى، وفنون الجبل تعيش، وكذلك شخصية اللبنانى المعتز بمظهره المدافع عن هويته المحتفظ دائمًا بأناقته، وسوف يظل اللبنانيون أصحاب مزاجٍ رائق لأن قدرتهم على تجاوز المحن تفوق كل الحسابات، وأنا أتذكر أنه فى أثناء الحرب الأهلية اللبنانية كان بعض الأصدقاء يستأجرون سيارة إسعاف للمرور بين خطوط التماس حيث لم يكن لديهم بديلٌ آخر للسهر والاستمتاع بالحياة.
ثانيًا: كثيرا ما كان لبنان أبًا شرعيا للحريات ونصيرًا قويا للصحافة الحرة والكلمة المقروءة أو المسموعة أو المرئية فى إطار هامش كبير من حرية التفكير والتعبير، إنه لبنان المفترى عليه أحيانًا والذى يتحمل عبء الصراعات العربية أحيانًا أخرى ويظل دائمًا وفيًا لعروبته يقظًا أمام خصومها داعيًا للارتقاء بها حتى تصل إلى سماوات المجد الذى عاشته فى مختلف العصور، إنه لبنان بشير الشهابى وفؤاد شهاب، لبنان بيت الدين، لبنان الذى صدحت له فيروز وهى تخاطب جارة الوادى تشد الأسماع وتخلب الأبصار مرددة كلمات أمير الشعراء الذى كان يحب لبنان ويصطاف بين ربوعها، وقد تولى وزارة الإعلام فى الحكومة الجديدة إعلامى عربى مرموق يعرفه الجميع سواء منهم من ربح المليون أو خسره إلا أن الجميع يستبشرون خيرًا بحضور جورج قرداحى لمجلس وزراء الجمهورية اللبنانية.
إن لبنان سوف يظل عصيًا على السقوط قادرًا على المواجهة ولاشك أنه سيجتاز تلك المرحلة الصعبة التى يمر بها شعبه، فاللبنانى لديه دائمًا إرادة الحياة وبريق الأمل ولن يتراجع أبدًا مادامت الدماء الحارة تجرى فى عروقه وأشجار الأرز تلوح فى الأفق أمامه لتذكره صباح مساء بمسئولياته وطموحاته وتبصره دائمًا بما يحيط به من أطماع وما يحاك ضده من مؤامرات وما يريد خصوم العروبة من سقوطٍ ذلك الشعب الأبى حتى ترث دول أخرى ذلك الميراث العظيم لدولةٍ أنيقة تعيش فى بؤرة الصراع وسط الأمواج المتلاطمة والرياح العاتية والعواصف الشديدة.
جريدة الأهرام
https://gate.ahram.org.eg/daily/NewsQ/823717.aspx