كلما انطوت صفحة من أيامنا التى نعيشها شعرنا وكأن العمر يلملم أوراقه، وأن مواكب الحياة تمضى سريعة بلا توقف، وأن تغيير قانون الوجود أمر لن يقدر عليه البشر، وعندما حاولوا ذلك وقعوا فى أخطاء كبيرة أدت إلى انتشار الأوبئة وشيوع الأمراض كأنما هى رسالة الخالق قائلاً لمخلوقاته إن لكم حدودًا لا تبرحوها وأن الأجيال التى سوف تتجاوزها ستدفع ثمنًا غاليًا فى تلك الأحوال، وهاهو عصرٌ بأكمله يطوى سجلاته وكأنه يستأذن فى الانصراف أو يتطلع إلى الرحيل، وفى كل الظروف فإن ذلك العصر الذى يرحل هو عصر حافل بالأجيال المختلفة التى تعاقبت عليه وعاشت فيه، وليس ذلك غريبًا أو جديدًا إذ إن كل عصور التاريخ قد احتوت أجيالاً تقدمت ثم تراجعت وظلت دائمًا تسجل إيجابياتها وتكاد تنكر سلبياتها، وهى طبيعة البشر فى كل أوان حيث خلق الإنسان عجولاً من أمره متجبرًا فى معظم شأنه لأنه قد يبنى ويجنى غيره، ويزرع وقد لا يحصد هو تاركًا ذلك لأجيال تتلوه، إننى أقول ذلك وأنا فزعٌ وقلق من التطورات التكنولوجية الهائلة التى تحيط بالبشر فى هذا الزمان، ولقد لاحظنا فى السنوات الأخيرة أن البحث العلمى يجرى ونحن نلهث وراءه وأن التكنولوجيا الحديثة هى سيدة الموقف، بل إن الأغلب الأعم منا يشعر بأن سباق الزمن قد تجاوزه، فالتقدم العلمى الكاسح لم يعد يسمح لأى منا أن يفكر منفردًا أو يتصور أنه يمكن أن يعيش فى عزلةٍ عن سواه، ولنا هنا بعض الملاحظات:
أولاً: إن ارتفاع معدلات الأعمار قد أعطى فرصة كبيرة لحياة أطول لمن يحرصون على ذلك، فأصبحنا ندرك بوضوح أن ما نفعله دائمًا مرهون بإرادة أقوى وتدبير أعظم، ومع ذلك فنحن نعترف بأن تشابك الحياة قد زادها تعقيدًا ولم يحسم الإنسان أمره تجاه معظم المشكلات العصرية، فمازلنا نردد ما قاله الآباء والأجداد عبر العصور، تلك هى سنة الحياة وطبيعة الوجود.
ثانيًا: لقد أحجم كثير من المنتمين إلى الوطن المصرى عن الخوض فى مهاترات لا تنتهى بين شركاء المستقبل والمصير، ذلك أننا نؤمن بوحدة الجنس البشرى فى أقاليمه المختلفة ودوله المتباعدة، وندرك أننا جميعًا فى قارب واحد نسعى للنجاة أمام الرياح العاتية والعواصف الشديدة.
ثالثًا: إن مصر هى مركز القاعدة العلمية للإقليم كله ولذلك فإنها تتحمل عبء المسئولية الكبرى فى ارتياد الطريق إلى المستقبل وفتح أبواب الآفاق الجديدة لملايين البشر فى غرب آسيا وشمال إفريقيا، إذ إنه فى الفترات المفصلية يحدث تحول كبير فى أنماط الحياة وسلوك البشر ويستدعى الأمر فى تلك الحالة أن تعتصم الشعوب بالبحث العلمى نحو المعرفة وأن تسرع الدول الخطى نحو المستقبل.
رابعًا: لقد سمعت منذ سنوات تعبيرًا مازال صداه يتردد فى ذهنى يقول (إن الديكتاتورية تولد من رحم الزحام)، وذلك أمر أشعر به كلما تابعت الحياة فى دولة مثل الصين أو الهند أو غيرهما من الدول المزدحمة سكانًا، وأغبط الهنود حين استطاعوا أن يحافظوا على التركيبة الديمقراطية فى بلادهم رغم الازدياد المطرد فى عدد السكان، بل وفى ظل سلام اجتماعى نسبى لا يتحقق أبدًا إلا فى حال قبول كل فرد لوضعه كما هو عليه، ولقد آمن الهنود - خلافًا للصينيين - بنظرية تناسخ الأرواح وحسبوا أن الظلم فى الحياة الأولى سوف يقابله خير فى الحياة الثانية تعويضًا من قانون البشرية الذى لاتنفصم عراه، بل إن استقبال الشعوب المختلفة لظاهرة الموت يختلف من شعب وغيره، ويؤكد فى مجمله أن نظرة الأمم تجاه النهاية أمر لم يتم الاتفاق عليه حتى الآن، فالفراعنة كانت لهم فلسفة خاصة فى فهم الموت وقبوله والتعامل معه حتى بقيت حضارتهم قبورًا شامخة على شكل أهرامات ومعابد ظلت حتى اليوم مثار دهشة ومبعث انبهار، لذلك فإن رحيل العصور يحمل فى طياته تجديد الأفكار وتغيير المفاهيم التى قد تكون نقلة نوعية للبشرية فى خطوات ثابتة إلى الأمام.
خامسًا: لقد رحل عصر النهضة فى أوروبا ثم رحل عصر الثورة الصناعية وقبلهما رحل عصر الكشوف الجغرافية وبعدهما عصر الظاهرة الاستعمارية، ونحن الآن نعيش عصر العولمة وصراع الحضارات والحرب على الإرهاب حتى بدأنا نكتشف أن التيار الثقافى السائد هو روح كل عصر وأنه لا بديل عنه بالنسبة للأمم أو الشعوب لكى تختار توقيت النقلة النوعية من مرحلة إلى أخرى، وسوف ينتهى عصر الشعارات الزاعقة والخطب الرنانة ليطل على كوكبنا عصر جديد له أدواته وأساليبه وأيضًا رموزه وأفكاره، ولاشك أن جيلى وأجيالاً أخرى قبلى وبعدى قد شهدت التحولات الهائلة فى مسار البشرية وأسهمت فى تأكيد نظرية الانتقال من الماضاوية إلى الحداثة اعتمادًا على العصرنة التى تبشر بكل ماهو جديد، فلقد جاء على الإنسان حين من الدهر تصوّر فيه أنه قد حاز المعرفة وسيطر على العلوم وامتلك ناصية الحاضر والمستقبل فإذا المفاجآت تتوالى لكى تثبت دائمًا أن كل جديد ليس بالضرورة صحيحًا، كما أن كل صحيح أيضًا ليس جديدًا وهى مقولة سمعتها من رائد الصحافة العربية المعاصرة الأستاذ هيكل منذ سنوات وآمنت بصحتها دائمًا وفى كل المناسبات.
.. دعنا نختم هذه السطور ونحن نتحدث عن رحيل عصر بما ذكره فيلسوف الإسلام الأول الإمام على كرم الله وجهه حين قال (ربوا أولادكم على غير طريقتكم فإنهم خلقوا لزمن غير زمانكم)، والدنيا تدور والعالم يجرى والبشر حائرون حتى النهاية.
جريدة الأهرام
https://gate.ahram.org.eg/daily/NewsQ/824634.aspx