يصادف الثامن والعشرون من سبتمبر كل عام مناسبات ارتبطت بالتاريخ المصرى المعاصر.. الأولى هى رحيل الزعيم جمال عبدالناصر، بعد أن تمكن فى اجتماعات متواصلة من انتزاع فتيل الحرب الأهلية بالأردن، بين قوات جيشه فى جانب وبين عناصر منظمة التحرير الفلسطينية فى جانب آخر، ولقد كان رحيل الزعيم صدمة كبرى فى وقتها، وبلغ الحزن عليه مداه، وإذا كان آباؤنا وأجدادنا يتذكرون جنازة سعد زغلول، فإن جنازة عبدالناصر قد فاقت ذلك بكثير، خصوصًا أنها جاءت فى وقتٍ تطل فيه الهزيمة بوجهها الكئيب على الأرض المحتلة فى سيناء.
ويلعق الوطن جراحه فى ظل ظروف اقتصادية ضاغطة وأحوالٍ متردية، أما المناسبة الثانية فهى أن ذلك اليوم يصادف أيضًا ذكرى الانفصال والانهيار الدستورى لدولة الجمهورية العربية المتحدة، وما نجم عن ذلك من آثار سلبية أسهمت فى انهيار المشروع القومى العربى ومهدت بقوة لمشروعٍ دينى بديل، أما المناسبة الثالثة فإن ذلك اليوم يقترن أيضًا بذكرى اندلاع ثورة اليمن ضد حكم الأئمة فى محاولة لدفع ذلك القطر العربى الشقيق إلى دائرة العصر بدلًا من أن يظل محكومًا بأساليب العصور الوسطى.
أولًا: نعود إلى رحيل الزعيم القائد وكيف أنه كان قد مرت على زواجى حينها عشرة أيام فقط، ورأيت أنا وزوجتى أن نخرج مع أحد أصدقائى من زملائى فى الخارجية هو والسيدة قرينته إلى العشاء فى أحد مطاعم الزمالك، وكان اسمه باللغة العربية مطعم (الملح والفلفل)، وقد تغير اسمه فيما بعد ليصبح (سكويا)، وهو يطل على النيل من قمة جزيرة الزمالك، وعندما جلسنا على مقاعدنا لاحظنا أن الإضاءة خافتة، وكأن شيئًا ما غير عادى قد حدث، وما هى إلا لحظات، وخرج علينا مدير المكان، يعلن إلغاء الحجوزات، وإغلاق المحل، لأن الرئيس قد مات. تخيلت لأول وهلة أنه يتحدث عن رئيس العاملين فى المكان، فقلت له: لماذا لم تعلن ذلك عند الحجز؟. قال كيف لى أن أعلم إلا بالبيان الذى أذاعه السيد أنور السادات منذ دقائق؟!.
عندئذٍ اكتشفنا أن الذى رحل هو أشهر زعيم فى تاريخ مصر الحديثة، وهو الذى ملأ الدنيا وشغل الناس، وسمعت بكاء المصريين ونحيب المصريات فى طريق العودة إلى منزلنا فى مصر الجديدة، وكيف أن الكثيرين كانوا يهيلون التراب على رؤوسهم تعبيرًا عن شدة الحزن والصدمة الكبرى التى ألَمّت بهم، وسوف تظل ذكرى ذلك اليوم قابعة فى ذهنى وجنازة الزعيم التى لم نرَ لها مثيلًا، حتى إن بعض كتب علم النفس الاجتماعى تدرس بين صفحاتها ظاهرة الحزن على عبدالناصر لأنه كان حزنًا مشوبًا بالخوف من المستقبل مقترنًا بالقلق مما هو آتٍ، ولقد احتشدنا نحن الدبلوماسيين المصريين فى يوم الجنازة بالدور العلوى لمبنى وزارة الخارجية بميدان التحرير، وشهدنا يومها طوفانًا بشريًا لا يتوقف وحزنًا لا ينتهى ولوعة تدوم عبر السنين.
ثانيًا: إن يوم الانفصال الكئيب أتذكره جيدًا حينما تحدث عبدالناصر عن التمرد الذى جرى فى معسكر (قطنة) بالإقليم الشمالى وكيف أن ما جرى حينها كان تجسيدًا لمؤامرة ضد الوحدة بسنواتها الثلاث، خصوصًا أن المصريين والسوريين قد عاشوا فى ظل دولة واحدة مرتين، الأولى تحت حكم إبراهيم باشا بن محمد على، والثانية دولة الوحدة بقيادة عبدالناصر من فبراير 1958 إلى سبتمبر 1961، وكأن هناك تربصًا بكل ما يفيد العرب كتعبير عن ظاهرة تاريخية متواترة لا تتوقف أبدًا، ولقد ظلت دولة الوحدة لعدة سنوات رافعة أعلامها مرددة نشيدها ترفض القبول بالأمر الواقع وتستنكر جريمة الانفصال.
ثالثًا: جاءت ثورة اليمن لكى تعيد إلى عبدالناصر جزءًا من وهجه الثورى الذى بدّدته مؤامرة الانفصال، فهو يرى العالم من منظور مختلف وبرؤية أخرى كأنما كان ما فعله الثوار اليمنيون هو تعويض قومى عن انهيار دولة الوحدة العربية فى ذلك الوقت.
هذه ذكرياتنا الذاتية عن ذلك اليوم ثلاثى الأبعاد، الذى ازدحمت فيه المناسبات وتكاثرت الذكريات وأصبح يومًا لا يُنسى.
جريدة المصري اليوم
https://www.almasryalyoum.com/news/details/2432385