مضى عصر طه حسين والعقاد والحكيم وسلامة موسى، ثم مضى عصر نجيب محفوظ ويوسف إدريس ولويس عوض، حتى بدأ عصر الغيطانى وسيد ياسين، ثم فوزى فهمى يتابع قافلة التنوير فى الرحيل أيضًا، إنها مواكب الضياء تمر على سماء الوطن برموز من أبنائه يفكرون ويكتبون ويتألقون، من الصعب تعدادهم ومن العسير حصر إمكاناتهم، فهم كالوميض الساطع والضوء الباهر يتركون الأثر بعد رحيلهم ربما أكثر منه فى حياتهم.
وقد رحل هذا الأسبوع تلميذ فاخر للناقد الكبير محمد مندور، وأعنى به الدكتور فوزى فهمى الذى كان يردد دائمًا أننى الذى أعدت لأكاديمية الفنون أرضها المقامة عليها حاليًا من لصوص الأراضى ومغتصبى الحقوق، وذلك عندما كنت أعمل سكرتيرًا للرئيس الراحل مبارك، الذى أمر على الفور بالتحقيق فى الأمر حتى استعاد المثقف المصرى الكبير، الذى رحل عن حياتنا منذ أيام، أرض ذلك الصرح الثقافى الرفيع والذى كان يترأس مجلس إدارته ويقود من خلاله حملة تنوير لا تخبو أبدًا، وأتذكر اليوم لويس عوض بعطائه المتميز وقدرته على إعمال العقل فى قراءة جديدة للتاريخ الفكرى للمصريين.
وقد جمعتنى بابن المنيا الراحل صلة وثيقة امتدت لعشرات السنين وكنت أرى فيه مفكرًا ملهمًا يحيل المعاناة المكبوتة إلى انطلاقة ثقافية تجذب الجميع، وهو الذى قال لى ذات يوم إن عبدالناصر كان يرسل عيونه لمتابعة العظات فى الكنائس لمعرفة اتجاهات الرأى العام، وقلت له: وهو أيضًا عبدالناصر الذى فعل ذلك فى المساجد لذات الغرض، وفى جلسة هادئة بالنادى الدبلوماسى قال لى وهو يرشف قطرات من كأس النبيذ الذى كان يفضله وكان تناوله متاحًا فى مثل تلك الأماكن منذ عدة عقود، قال لى: إن المفكر الجزائرى مالك بن نبى قال له ذات مرة إن مشكلة المصريين أنهم شعب «بزرميط»، لأنهم خليط إفريقى أوروبى آسيوى، شاركت فى تكوينه دماء اليونان والرومان والعرب والأتراك وغيرهم، لذلك جاءت الشخصية المصرية توليفة ذات خصوصية من مجمل تلك الأطراف.
إنه لويس عوض الذى سجنه عبدالناصر يساريًا بعد أن طرده من الجامعة معارضًا، وعندما زامل لويس عوض الساخر العظيم محمود السعدنى فى تجربة الاعتقال لك أن تتخيّل النوادر التى جمعت فى علاقة واحدة بين المفكر الكبير لويس عوض وفيلسوف السخرية محمود السعدنى، وما أكثر ما سمعت من الأخير عن نوادر حول تلك العلاقة وراء القضبان، إنه لويس عوض الذى خرج على التقاليد الجامدة والقوالب التقليدية الثابتة فى كتابة مذكراته الشخصية خصوصًا (سنوات التكوين) حتى جاءت قمة فى الشجاعة وغاية فى الصراحة وتعبيرًا أمينًا عما بداخله، بما فى ذلك بعض أسراره العائلية من تاريخه الشخصى.
ونحن لا ننسى أبدًا مقالاته الرائعة فى الأهرام الأسبوعى ونتذكر لقاءه فى الولايات المتحدة الأمريكية بالملكة السابقة نازلى، زوجة الملك فؤاد وأم الملك فاروق، هى وبناتها فى سنوات الشحوب بعد اكتمال مأساة عائلة جسّدت الأفراح الكبرى والأحزان السوداء فى تراجيديا مسارات الملوك ومآسى العروش، إننى أتذكر الآن جلساتٍ أخرى جمعتنى به هو وصديقه الراحل أستاذ الدبلوماسية الحديثة وعلم التفاوض الدكتور أسامة الباز وكيف كان الحديث بيننا يتطرق حول كل المسكوت عنه وأنا أقوم بتشغيل رادار الذاكرة حتى لا تفوتنى كلمة واحدة من تلك اللقاءات النادرة.
كما كان لويس عوض مقترنًا بسيدةٍ أجنبية ولم ينجب ذرية تحمل اسمه، وقد كان له شقيق أستاذ للأدب الإنجليزى فى الجامعة، وهو الذى كان يرى دائمًا أنه مظلوم بسبب طغيان شخصية شقيقه لويس عوض على نحو أضر بموهبة الشقيق الأصغر، وعندما رحل الزوجان لويس عوض وقرينته كان فى شقته عشرات القطط، يبدو أنها كانت سلواهما بديلًا لغدر البشر وفواجع العلاقات الإنسانية التى كانت تتجه إلى الهبوط بفعل التطور التكنولوجى والأطماع المتراكمة فى نفس الإنسان المعاصر.. رحم الله لويس عوض الذى تطرق لكل الموضوعات، يبغى الإصلاح من وجهة نظره، حتى طالت محاولاته اللغة العربية ذاتها وقواعد نحوها، وكان له تحليل خاص لشخصية جمال الدين الأفغانى مازال محل جدلٍ فى كثير من الكتابات المعاصرة حتى الآن، ولقد مضى المفكر الكبير بعد مرض عضال ومضت بعده قوافل من رفاقه وتلاميذه ومريديه، رحمهم الله جميعًا.
جريدة المصري اليوم
https://www.almasryalyoum.com/news/details/2442764