يزخر التاريخ المصرى بحشد كبير من المفكرين تزدحم بهم ذاكرة الوطن وما أكثر ما نقلب فى تلك السير ونحتار من نختار منها! فلكل إسهاماته ولكلٍ دوره وهم جميعًا شركاء فى بناء المنظومة الثقافية الحديثة للأمة المصرية، بل العربية أيضًا، وتحضرنى هذه الأيام ذكريات علاقتى الممتدة بمفكرٍ مصرى من طراز خاص هو أنور عبدالملك الذى اختلف الناس حوله ولكنهم لم يختلفوا عليه، فالكثير من أفكاره كانت ولاتزال محل جدل ومصدر حوار ويتفق الجميع على أن الرجل رحمه الله كان مفكرًا مصريًا بارزًا، عاش حياته مناضلا فكريًا ومثقفًا رفيعًا وارتبط دائمًا بنظريته التى دافع عنها طوال حياته والمتصلة بضرورة الاهتمام بالشرق الأقصى خصوصًا دراسة التجربة الصينية فى التطور والتنمية مع استعادة عصرية لطريق الحرير الذى سلكه الأجداد عندما كانت التجارة هى المقدمة الطبيعية لنقل الأفكار والتعرف على الثقافات، ولقد عرفت الدكتور أنور عبدالملك منذ بداية ثمانينيات القرن الماضى عندما كان يتردد على مصر من مقر إقامته المؤقت فى باريس واستمعت إليه واستفدت من آرائه كثيرًا على نحو أعتز به بل ناقشته وحاورته واتفقنا على أن يكون له صالون فكرى بدأنا منه اجتماعين بالنادى الدبلوماسى بوسط القاهرة، ولكن شواغل الحياة وكذلك انتقالى سفيرًا لمصر فى فيينا أدى إلى توقف ذلك الصالون وإن لم يتوقف التواصل الفكرى بينى وبين أنور عبدالملك، وقد كان من حسن حظى أنه قد أنجب ابنة من زوجة نمساوية تزوجها فى ستينيات القرن الماضى وكانت ابنته تلك هى (مسمار جحا) الذى كنت أستدعيه به ضيفًا علينا فى العاصمة النمساوية حيث نقيم على شرفه لقاءات فكرية مبررًا دعوتى له بزيارته لابنته النمساوية التى كان شديد التعلق بها، ومازلت أتذكر أن حشدًا كبيرًا من المصريين والعرب قد حضروا لقاءات أنور عبدالملك فى نهايات القرن الماضى فى النادى الدبلوماسى أو فى أحد الفنادق فور انتهاء احتفال السفارة المصرية بالعيد الوطنى، ولقد كان أنور عبدالملك أحيانًا حاد الطبع متقلب المزاج ولكننى كنت أدرك أن تلك هى بعض صفات المفكرين الكبار عندما تزدحم أمامهم شبكة المعرفة وتتداخل الرؤى بسبب ارتفاع المستوى الثقافى أحيانًا.
وأنا أتذكر الآن أحاديث أنور عبدالملك خصوصًا عندما أتابع محاولات إحياء طريق الحرير والزيارات التى تمت من جانب الرئيس المصرى عبدالفتاح السيسى لدولة الصين والعلاقات القوية التى تربط بين البلدين فى السنوات الأخيرة فضلا عن الدور المتنامى لجمهورية الصين لا فى آسيا وحدها ولكن على مستوى العالم بأسره، فهى قاطرة التنمية فى عصرنا الحديث وهى الوريث الطبيعى للتراجع الأمريكى الغربى عندما يحدث، والعالم كله ينظر إلى الصين مشدوهًا ومنبهرًا بالإنجازات الضخمة والدور المتزايد على الصعيدين الاقتصادى والسياسى، ولقد أصبح حضور الصين فى المجتمع الدولى مثار انبهار وإعجاب سواء من اتفقوا مع سياستها أو اختلفوا عنها إلا أنها تحظى دوليًا وإقليميًا بمكانة رفيعة، ولقد كان دورها فى جائحة كورونا خلال العامين الماضيين موضع جدلٍ عالمى سواء بتوجيه الاتهام لها فى البداية عند انطلاق الفيروس أو الإعجاب بقدرتها فى القضاء عليه وخلوها تقريبًا منه ونجاتها من آثاره التى ملأت الدنيا وشغلت الناس، وجدير بالذكر أننى شخصيًا أتابع باهتمام وترقب الجهود العالمية والمحلية لإحياء طريق الحرير مرة أخرى وهو أمر يتبناه الكثيرون فى المنطقة وفى مقدمتهم الدكتور عصام شرف رئيس مجلس وزراء مصر الأسبق الذى كان يزور الصين شهريًا فى حواراتٍ متصلة مع العلماء والمفكرين والخبراء إلى أن أصبح الطيران صعبًا والانتقال عسيرًا بسبب وباء كورونا وتداعياته، ويتبنى الدكتور شرف بحماسٍ ومعرفة مسألة طريق الحرير وإحيائه مع فهم عميق وإعجاب شديد بتجربة الصينيين، وكذلك عرفت أن الصديق العزيز الدكتور زياد بهاء الدين نائب رئيس مجلس الوزراء الأسبق كان يتردد على الصين بانتظام أيضًا فى دورات علمية وبحثية وحوارات اقتصادية وتجارية، فالصين بحق هى بوابة المستقبل والطريق إليه بكل ما تحمله من إمكانات كبيرة وما تحتويه من إنجازات باهرة على مستوى التكنولوجيا والاقتصاد، ولعل زيارةً سريعة للأسواق الأمريكية تعطى انطباعًا برواج البضاعة الصينية مثلما هو الأمر بالنسبة للمنتجات الصينية فى معظم أسواق العالم حتى أصبحنا نتحدث عن حرب باردة اقتصادية وليست سياسية .. إن التنين الأصفر الذى بشّر به أنور عبدالملك يمضى كاسحًا أمامه قوى كثيرة وتجارب اقتصادية متفوقة بعدما حاز وضعًا متقدمًا رغم كل العقبات الفكرية والاختلافات الثقافية التى تصنع أحيانًا سورًا عظيمًا بين الصين والعالم المعاصر، وجدير بالذكر هنا أن الصينيين لا يعبأون بالانتقادات الكثيفة الموجهة إلى بلادهم فى قضايا حقوق الإنسان لأنهم يحركون مئات الملايين فى جميع مناحى الحياة وتقنيات العصر. إننى كلما تابعت التجربة الصينية وآثارها المعاصرة تذكرت أنور عبدالملك مفكرًا رائدًا كان له رؤية استباقية ناضجة مع فهمٍ عميق للمدلول الثقافى للحضارات، إنها بلاد البحث عن المجهول وبلاد فهم المعلوم، بلاد السور العظيم والتجربة الشيوعية الضخمة مع القدرة على تحريك الاقتصاد دون قيود الأيديولوجيا، إنها بلاد العم ماو والثورة الثقافية ثم الانطلاقة الاقتصادية الكبرى .. إن المعجزة الصينية هى المارد الذى يتحرك على أرض آسيا وكأنه يقود العالم.
جريدة الأهرام
https://gate.ahram.org.eg/daily/NewsQ/828884.aspx