نتعرض لقضية شائكة تبدو منها ملامح الاختلاف بين المشروعين القومي والإسلامي، وإذا كان المشروع القومي قد عانى في العقود الأخيرة حالة من الانحسار بل والانكسار في وقت تزايد فيه المد الديني وانتعش المشروع الإسلامي، فإنه يتعين علينا ـ والأمر كذلك ـ أن نبحث في فكر جماعة «الإخوان المسلمين» صاحبة الريادة التاريخية داخل حركة «الإسلام السياسي» لعلنا نكتشف أين يقف فكر جماعة «الإخوان» من التيارات القومية عموماً والعروبية خصوصاً. ولو عدنا إلى الأدبيات الأولى في تاريخ الجماعة لوجدنا في مقدمة واحد من كتب الإمام المؤسس والمرشد الأول حسن البنا ما يؤكد فيه أنه لا يكون مسلماً حقيقياً إلا من يعترف بفضل العرب ويحترم العروبة لأن نبي الإسلام عربي كما أن الذكر الحكيم قد نزل بلسانٍ عربي مبين، ومن هذا المنطلق، فإن دعاة الحركة الإسلامية في العالم يجب ألا يقفوا موقفاً مناوئاً للتوجهات العروبية ولا المشروعات القومية. ويمكننا هنا أن نطرح الملاحظات الآتية:
أولاً: لقد جرت محاولات عدة للتوفيق بين التيارين الإسلامي والعروبي أو بين التيارين الديني والقومي، وأحسب أن «مركز دراسات الوحدة العربية» في بيروت برئاسة المفكر العربي الكبير الدكتور خير الدين حسيب قد ساهم بقدر وافر من الجهد والوقت والفكر في هذا الاتجاه، وعقدت لذلك مؤتمرات بدت منها روح المحاولة التوفيقية التي رآها الكثيرون غير كافية لوضع أرضيةٍ للعمل العربي والدعوة الإسلامية في وقت واحد، بل لقد زعم البعض أن محاولات اختلاق التوافق قد بدت للبعض وكأنها محاولات اصطناعية أكثر منها طبيعية، لأن أسباب الخلاف وعوامل الاختلاف تبدو أعمق وأكبر مما يبدو على السطح، فالمنطلق مختلف والمنهج متباين وبين المشروعين الإسلامي والعربي مسافة واسعة تحتاج إلى الاعتراف بأن المساحة المشتركة بينهما محدودة.
ثانياً: إن فكر جماعة «الإخوان المسلمين» ينطلق من أرضية دينية بحتة ولا يعرف غير العقيدة الدينية قاعدة للانطلاق والحركة، فالمسلم الإندونيسي يمكن أن يكون أقرب عندهم من المسيحي اللبناني! حيث لا يبدو الإطار القومي هو الجامع الذي يرتكز عليه فكر الجماعة ولكن الإطار الأكبر والأشمل هو ذلك المتصل بمفهوم الأممية الإسلامية فوق الدولة الوطنية بل وحتى الدولة القومية، أما العروبيون فهم أولئك الذين يركزون على العامل الثقافي والتاريخ المشترك ولا يضعون الدين في صدارة العوامل التي يسترشدون بها، ولقد عرف تاريخ الجماعة مواقف عدة اتضح منها أن الولاء للدين يعلو على الانتماء الى القومية أو حتى الارتباط بالأرضية الوطنية ذاتها، وقد جمعني لقاء تلفزيوني منذ سنوات بقطبٍ إخواني كبير ووجهت إليه سؤالاً واضحاً: لو أنك دخلت أحد المقاهي في عاصمة أجنبية ولتكن لندن، ووجدت أمامك على المائدة شخصين أحدهما مسلم من ماليزيا والثاني عربي مسيحي، فإلى أيهما تنجذب أكثر؟ ويومئذٍ أدهشني أن القطب الإسلامي قد أجاب بأن الأمر متروكٌ للظروف ولا أفضلية عندي إلا لمن ينتمي إلى ديني! بل إنه عندما ترشح بطرس بطرس غالي لمنصب الأمين العام للأمم المتحدة وكان قد تردد قبله اسم الأمير صدر الدين خان، فوجئت بأن تيارات إسلامية عدة ـ داخل مصر ـ تدعم المرشح الآسيوي المسلم على المرشح الإفريقي المسيحي على رغم أن ذلك كان هو دور القارة السوداء في تولي المنصب الدولي الكبير.
ثالثاً: إن «الإخوان المسلمين» براغماتيون يتحركون وفقاً للواقع ويتعاملون مباشرةً مع الشارع ولا تعنيهم كثيراً أهازيج القومية ولا أناشيد حب الوطن إذ تكمن الغاية لديهم في الدولة الإسلامية الواحدة التي يمكن أن تقودها الجماعة بدعم من الجماعات السلفية المدعومة بـ «السلفية الجهادية» عند اللزوم، وتكمن المشكلة الحقيقية في أن الجماعة تتشرنق حول نفسها وتعيش في داخلها، مما حدا بالكثيرين لأن يوجهوا اليها اتهاماً بالظلال «الماسونية» في عمق فكرها وخلفية رؤيتها للسياسية والحكم في الأقطار الإسلامية المختلفة، لذلك فهم لا يعولون كثيراً على دولة المنشأ ولا جنسية صاحب الفكر إنما العبرة بالالتزام فقط بالمشروع الإسلامي الذي يسعى إلى السيطرة والاستحواذ مهما كان الثمن، لذلك تظل نظرية «التمكين» ومفهوم «الإزاحة» مفردات معروفة لدى أصحاب المشروع الإسلامي ولو جاء ذلك على حساب سواهم جماعات أو أفراداً.
رابعاً: إن موقف جماعة «الإخوان المسلمين» من الأقليات المسيحية أو اليهودية هو موقف نظري بحت ولكن الواقع يعكس رؤية متشددة في الأعماق وفكراً أحادياً لا يعترف بالآخر إلا في حدود ضيقة ومراحل معينة قبل أن تستوي الجماعة على مواقعها المطلوبة والسلطة التي وصلت إليها. فـ «الإخوان» طلاب سلطة قبل أن يكونوا أصحاب مبدأ، لذلك يتعين على كل من يتعامل معهم أن يدرك أنهم «حركة سياسية سلطوية» قبل أن يكونوا «جماعة دينية دعوية» وهم في النهاية عقل «الإسلام السياسي» كله، فالباقون هم بمثابة «عضلات» ذلك الجسد الكبير، ولعل الجماعات «السلفية» تلعب دوراً مكملاً في هذا الشأن، يضاف إلى ذلك أن فكر «الإخوان المسلمين» فكر ذاتي يتغلغل في أعماق أتباعه من سن مبكرة، لذلك فهم ينظرون إلى المتحولين إليهم باعتبارهم انتهازيين يجرى استخدامهم إلى حين! كما أن الامتداد الدولي لجماعة «الإخوان المسلمين» يعطي الحركة أحياناً شعوراً متزايداً بالثقة التي تصل إلى حد الاستعلاء لأنهم يدركون أن قوى مجاورة لهم يمكن أن تتجاوب مع نداءاتهم عند اللزوم، من هنا فإن براعتهم في الحشد ترتبط بالتركيز على أماكن معينة في وقت معين ولكنهم غير قادرين على الانتشار في كل مكان وفي كل وقت، ومع ذلك نعترف بأن جماعة «الإخوان المسلمين» تملك قدرة ميدانية تتجاوز قدرات غيرها من الحركات السياسية ذات الطابع القومي أو المنطلق الوطني.
خامساً: إن الانقسامات المذهبية بين المسلمين والشقاق المتزايد حالياً بين السنّة والشيعة لا يبدو له تأثير سلبي في تنامي التيارات الإسلامية، ففي اللحظة المناسبة نجدهم في قارب واحد. أما المشروع القومي، فإنه يعاني مشكلاتِ داخلية وضغوطاً خارجية تبدو سلبية التأثير، كما أنه قد مر بمرحلة مد تاريخي في الحقبة الناصرية متواكب مع حركة حزب العبث العربي الاشتراكي وجماعاتِ أخرى ذات طابع راديكالي مثل «القوميين العرب» و «الوحدويين الاشتراكيين» وغيرهم، وكانت النتيجة حالة من التشرذم والتشتت على أثر تهاوي الحقبة الناصرية وتراجع المشروع القومي عموماً وهو أمر مارست فيه الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل وبعض الحلفاء الغربيين دوراً ملموساً، يضاف إلى ذلك كله تنامي المشروع الإسلامي في العقود الأخيرة خصوصاً بعد نكسة حزيران (يوينو) 1967 وتداعياتها على المسرح السياسي في الشرق الأوسط كله وطغيان الدور الإسرائيلي في المنطقة وبروز سياستها العنصرية والعدوانية والتوسعية خصوصاً تجاه الشعب الفلسطيني الذي انقسم على نفسه نتيجة دخول تيار المقاومة الإسلامية مخترقاً تيارات المقاومة القومية، ولعلنا نتذكر أن حركة «حماس» - على رغم أننا لا نشكك في وطنيتها الفلسطينية - قد بدأت كصناعة إسرائيلية تحت شعار «القيادة البديلة» للضغط على ياسر عرفات بعد الانتفاضة الأولى، وبذلك نجد أن التيار الإسلامي لا يتوقف عند منافسة التيار القومي ولكنه يخترقه وينفذ من خلاله لتمزيق أوصال الأمة العربية، على رغم أن الإسلام قيمة مضافة للعروبة وهي أيضاً بالنسبة إليه، ولكن الأصابع الأجنبية صنعت ذلك التناقض الذي نشعر به كثيراً.
هذه بعض الرؤى حول نظرة «الإخوان المسلمين» الى الفكر القومي عموماً وتياراته المختلفة ونلحظ منها الشعور بالتنافسية وليس التكاملية، وتبدو المخاوف دائمة من الطرفين كل تجاه الآخر، وهناك عامل أساسي لا يمكن إغفاله وهو تفضيل التيارات الإسلامية للتعامل مع قوى خارجية بديلاً لاندماجها مع قوى قومية أخرى ولو كان الهدف واحداً. إننا أمام إشكالية تبدو معقدة تقوم على الحساسيات المفرطة للإسلاميين تجاه الحركة القومية وروافدها المختلفة وهم يعتبرونها مصدراً للاختلاف ومسرحاً لنشاط الأقليات الدينية ويفرقون بوضوح بين دولة الخلافة الإسلامية في جانب والدولة القومية التي تظلل الأعراق والديانات والألوان كافة. ويكفي أن نتذكر أن أدق تعريف لكلمة «عربي» هي كل شخصٍ تكون العربية لغته الأولى، وبذلك نخرج من دائرة التمييز والعنصرية التي لا يخلو منها أي تيار يمزج الدين بالسياسة. من كل ذلك نرى أن جماعة «الإخوان المسلمين» ليست تعبيراً عن فكر قومي عروبي بحكم المنشأ ودروس التاريخ ولكنها تعبير واضح عن «الحاكمية الدينية».
د. مصطفي الفقي;
جريدة الحياة
تاريخ النشر: 18 يونيو 2013
رابط المقالة: http://www.alhayat.com/article/437520/البعد-القومي-في-فكر-الإخوان-المسلمين