شاءت مسيرة حياتى أن أقترب كثيرًا من شخصياتٍ مؤثرة فى اتجاهاتٍ متعددة رغم التباين فى التخصص والاختلاف فى طبيعة العمل، ولقد جمعتنى بالكاتب المسرحى الراحل ألفريد فرج صلة وثيقة فى العقدين الأخيرين من عمره، فقد كان رجلًا ودودًا يتوهم أن فى يدى حل مشكلات الغير مهما كانت مستعصية، ولأنه كان يمثل قنطرة بين الأدب والفن، فإن ولاءه للمسرح كان مطلقًا، وإذا كان المسرح هو أبو الفنون فإن الفريد فرج من الآباء المؤسسين لنهضة الحركة المسرحية فى النصف الثانى من القرن الماضى.
وقد كان كاتبًا موهوبًا ودودًا مع البشر يهيم فى عالمه الخاص ويتحدث مع من يثق فيهم بصراحة مطلقة وود كبير، وأتذكره دائمًا بصوته الخفيض وضحكته العالية ولقاءاتنا الدائمة التى كان يبثنى فيها همومه النفسية والصحية، معبرًا عن حزنه لتدهور الحركة الفنية فى سنوات عمره الأخيرة، وكان يعتمد فى تحركاته على قرينته الفاضلة السيدة ثريا، وكان يصعب، بل ويستحيل، أن تكتشف من حديثه عقيدته الدينية، فهو القبطى الأرثوذكسى الذى كان مصريًا قبل كل شىء وفنانًا قبل كل شىء يؤمن بالإنسان ويحترم كل العقائد.
وكان يحلو لى دائمًا أن أسأله عن رأيه فى معاصريه من الأدباء والفنانين وأستمع فى حرص شديد إلى آرائه الصادقة وتحليله المحايد مع تصور لا يخلو من سخرية حين يشاء ولا يبرأ من غصة حين يريد، إنه ألفريد فرج الذى ارتبط بالنهضة المسرحية فى ستينيات القرن الماضى وما بعدها، والذى تحوّل إلى مؤسسة إنسانية متحركة قادرة على إحالة المعاناة إلى أعمال رائعة ومشاهد متفردة، وكان يتصل بى هاتفيًا مرتين أو ثلاث فى الأسبوع متحدثًا عن ظاهرة معينة أو يشكو من حدثٍ بذاته، فقد كان يعتقد يرحمه الله أنى أستطيع حل كل المشكلات والتدخل لحل كافة الأزمات.
وقد كنت حريصًا على ألا أخذله أبدًا لأنه قيمة كبيرة تدعو إلى الاحترام وتبعث على الطمأنينة وكأنه واحد من عائلتى أو فرد كبير من أسرتى، ولا أنكر أنه كان فى سنواته الأخيرة يشعر بجحود البعض وتنكر البعض الآخر، ولكنه كان دائمًا يتسم بالشموخ والقدرة على الارتفاع فوق المعاناة والألم، ولقد مر بظروفٍ صحيةٍ صعبة، ولكنه كان قويًا أمام الألم، صابرًا فى محنة المرض، إننى أتذكر ألفريد فرج اليوم لأننا ودعنا منذ أيام أديبًا فنانًا ومثقفًا رفيعًا هو الدكتور فوزى فهمى، ولا أعرف لماذا ردتنى الذكريات إلى ألفريد فرج.
إذ إنه رغم الاختلاف بينهما يلتقيان فى الزهد عن الأضواء والتركيز على العمل الجاد فى صمتٍ وهدوء، مع اشتراكهما فى تذوق الأعمال الفنية كل فى مجاله، وأنا أريد لشبابنا ولأجيالنا القادمة أن يدركوا أن مصر المنجبة قدمت نماذج فريدة فى مجالات متعددة مضت فى حياتها دون صخبٍ شديد أو أضواء باهرة، ولكنهم كانوا فى النهاية وقودًا حيًا أضاء الطريق لمن تبعهم ومضى على دربهم، وكم كان إيمانهم عميقًا بالحرية وولاؤهم شديدًا للاستنارة، فهم بحق حملة شعلة التنوير فى حياتنا لأن الآداب والفنون هى التى تصوغ ضمير الأمة وتصنع وجدان الشعب، ولقد اشتركت الشخصيتان فى مساحة واحدة من الانسحاب عن الحياة العامة عند اللزوم.
وعندما زاملت فوزى فهمى سنواتٍ طويلة فى المجلس الأعلى للثقافة كنت أرى فيه انعكاسًا مباشرًا لشخصية الراحل الكبير ألفريد فرج، إذ إنه رغم اختلاف المعتقدات والأفكار إلا أنهما كانا يشتركان فى القدرة على الانزواء مهما حاولت الأضواء اختطافهما، إذ إن كلًا منهما كان يعرف حدوده جيدًا ولا يقايض على ولائه للثقافة والأدب والفن أبدًا.. رحم الله ألفريد فرج أحد الآباء الكبار للمسرح المصرى، ورحم الله المثقف الراحل فوزى فهمى أحد الآباء الكبار لأكاديمية الفنون التى تبدو أيقونة فى الطريق إلى الأهرامات شاهدة على العصر وحارسة للإبداع.
جريدة المصري اليوم
https://www.almasryalyoum.com/news/details/2447904