تضرب العلاقات بين روسيا والعرب فى جذور التاريخ، ولقد صادفت أخيرا مذكراتٍ قديمة لبعض علماء الأزهر الشريف ممن زاروا روسيا منذ قرنين من الزمان وكيف كانت رؤيتهم للأوضاع العامة فى ذلك البلد الأرثوذكسى الكبير، إذ ان الكنيسة الأرثوذكسية واحدة من أكبر الكنائس الشرقية على الإطلاق ولها علاقة وثيقة بروسيا، ولعلنا نتذكر البابا القبطى بطرس الجاولى عندما زاره مبعوث القيصر الروسى عارضًا عليه حماية روسيا للأقباط المصريين، فرد عليه ذلك البابا الوطنى المستنير قائلاً: إن لى سؤالا هل يموت القيصر أم يعيش إلى الأبد؟ فقالوا له: إنه يموت كغيره من البشر، فرد عليهم: إننا هنا فى حماية الحى الذى لايموت مشيرًا إلى الرب الذى يرعى الجميع من مختلف الديانات والطوائف، ولعلنا نجازف، فنقول إن نظرة الروس إلى الإسلام والمسلمين لاتخلو من قلق وحذر واضحين فهى ترى أنهما يمثلان تهديدًا تاريخيًا للكنائس الشرقية فضلاً عن الخلافات الدائمة مع الأقليات الإسلامية داخل الاتحاد الروسى وفى مقدمتهم الشيشان، ولقد تنامت العلاقات بين الروس والعرب على المستوى السياسى فى القرون الثلاثة الأخيرة وربما كانت سيطرة الدولة العثمانية على المنطقة العربية أحد عوامل الجذب التى شدت الروس إلى الشرق الأوسط وفتحت شهية أبناء القومية السلافية نحو العرب والعروبة وذلك بسبب العلاقات شديدة الحساسية تاريخيًا بين الروس والترك نتيجة الصراع حول المضائق والتنافس المحتدم لرغبة روسيا الدائمة فى الوصول إلى المياه الدافئة، والذى يعنينا الآن بصفة خاصة هو طبيعة العلاقات السياسية بين الدول العربية والاتحاد الروسى فى ظل المتغيرات التى شهدتها أقاليم العالم المختلفة خصوصًا بعد انتهاء الحرب الباردة والدخول فى منافسات اقتصادية حادة تلعب فيها الصين دورًا ملموسًا وتسعى من خلاله روسيا إلى تثبيت أوضاعها فى مناطق مختلفة من العالم وذلك حماية لمصالحها ورغبة فى المزيد من السيطرة على بعض البقاع خصوصًا فى الشرق الأوسط وإفريقيا، ولقد دخلت روسيا الشرق الأوسط من البوابة المصرية فى مرحلة تصفية الاستعمار الغربى وتنامى حركة التحرر الوطنى فى ظل العصر الناصرى ولكن ذلك لا يعنى أبدًا أنها كانت متعاطفة تمامًا مع العرب فى مسألة القضية الفلسطينية فهى واحدة من الدول الأولى التى أعلنت تأييدها لقيام دولة إسرائيل فور الإعلان عنها فى الأمم المتحدة، كما أن المكون السكانى لليهود فى فلسطين يضم نسبة كبيرة من اليهود الروس الذين شكلت هجرتهم نسبة ملحوظة من الجانب اليهودى فى دولة إسرائيل، وقد يكون من المفيد أن نعرض فى ملاحظات ثلاث النقاط الآتية:
أولاً: تتطلع موسكو دائمًا إلى وجود موضع قدمٍ لها فى الشرق الأوسط خصوصًا فى المنطقة العربية، فإذا أخرجها السادات من بوابة مصر فإنها تدخل من بوابات أخرى فى مقدمتها الآن سوريا فهى الدولة العربية ذات الأهمية الاستراتيجية الخاصة وتعتبر مفتاح الأمن القومى فى المشرق العربى، لذلك زرعت روسيا قاعدة بحرية فى اللاذقية وزادت على ذلك اهتمامًا خاصا بالدولة السورية بل إننى أزعم أن بقاء بشار الأسد فى الحكم حتى الآن مدين للاتحاد الروسى ودعمه المستمر ولازلنا نتذكر براميل المتفجرات التى كان يقذف بها الطيران الروسى كل التجمعات المعادية لنظام الأسد. وهو ما حسم المعارك فى النهاية لصالحه فى وقتٍ كان نظامه قاب قوسين أو أدنى من الانهيار.
ثانيًا: ظلت العلاقات الدبلوماسية متجمدة بين دول الخليج العربى وفى مقدمتها المملكة العربية السعودية وروسيا لسنوات طويلة، وجرى حسبان روسيا على المعسكر المعادى لدول الخليج العربى خصوصًا السعودية بسبب دعمها طويل المدى لمصر فى مواجهة ماكانت تسميه معسكر الرجعية والتى اختلفت مع سياسات القاهرة فى خمسينيات وستينيات القرن الماضى، ولكن الأمور تغيّرت ومازلنا نتذكر ذلك المشهد الحميم للرئيس الروسى فلاديمير بوتين ومعه ولى العهد السعودى الأمير محمد بن سلمان أثناء مباراة كرة القدم بين فريقى بلديهما منذ سنوات قليلة، وهكذا تبدلت الأدوار فى ظل الفهم الجديد للتحالفات الناقصة التى لاتستلزم تطابقًا كاملاً فى السياسات الخارجية أو الداخلية، فقد أصبح مقبولاً أن تقيم دولتان علاقات طيبة لمجرد أنهما متفقتان فى سياستهما على 60 بالمائة من وجهات النظر باعتبار أن ذلك يكفى وأن التطابق لم يعد هو سمة العصر، لذلك تزايدت العلاقات الروسية الخارجية وأصبحت جزءًا لا يتجزأ من السياسة الإقليمية لمنطقة غرب آسيا بدءًا من الخليج العربى وصولاً إلى شمال إفريقيا، ولم يعد فى مقدور كل دولة عربية أن تقيم علاقات حرة مع روسيا الاتحادية دون قيود ترتبط بملابسات الماضى وأوضاعه السابقة.
ثالثًا: لاينكر أحد أن الشهية الروسية قد تفتحت على القارة الإفريقية خصوصًا فى شرقها حيث منطقة القرن الإفريقى بما تمثله من أهمية استراتيجية كمدخل مؤثر للقارة السمراء من البحر الأحمر وحتى بحر العرب، والذين تابعوا أزمة سد النهضة وتحدثوا كثيرًا عن مواقف الدول فى مجلس الأمن واستغربوا الموقف الروسى المؤيد ضمنًا للجانب الإثيوبى غاب عنهم أن ذلك يحدث لأسبابٍ تتصل بالمصالح الحالية والمحتملة للدولة الروسية فى شرق القارة الإفريقية خصوصًا أن موسكو قد وصلت تاريخيًا للحدود القصوى لعلاقتها مع السودان ومصر، فالدول تبحث عن مصالح جديدة ولا ترتبط بمبادئ تشدها فى اتجاه واحد. هذه ملاحظات سريعة حول العلاقات العربية بالاتحاد الروسى وتأثيرها على المستقبل وهى كلها تشير إلى اتجاهٍ يتصل بالمصالح القومية للروس وليس بالأيديولوجية الماركسية المعروفة لهم كما كان الأمر من قبل..
جريدة الأهرام
https://gate.ahram.org.eg/daily/NewsQ/829692.aspx