اشتهرت مدينتان بازدهار الموسيقى وفنون الغناء، إحداهما فى الشام، وهى حلب الشهباء، والثانية شمال العراق، وهى مدينة الموصل، بينما كانت مصر تتأهب للانطلاق فى مجالاتٍ أخرى، وفى مقدمتها علوم الدين من خلال الأزهر الشريف، فى ظل الاحتلال العثمانى الذى جثم على صدر المنطقة كلها لعدة قرون، والذى يهمنى اليوم هو شخصية مدينة حلب كملتقى لأطراف الموسيقى الشرقية التركية والعربية.
حيث امتزجت الموشحات القادمة من المغرب العربى مع القدود الحلبية الواردة من أعماق الثقافة الإسلامية، فقد تغنى الشعراء فى العراق حتى قال أحدهم: (عيرتنى بالشيب وهو وقار ؞ ليتها عيرتنى بما هو عار)، وترجع صلتى الشخصية بالفنون والطرب العربى الوارد من الشام من خلال بعض الأصوات التى أعجبتنى، وفى مقدمتها مطرب الجبل والكنيسة وديع الصافى، ومطرب العاطفة التى تكاد تختنق حين يصدح حبيب عازار بأغنيته الشهيرة (صيدلى يا صيدلى.. هات لى دوا لها ودوا لى).
ثم كان الاكتشاف الأكبر فى حياتى منذ عدة عقود هو صوت صباح فخرى الذى كان ظاهرةً من نوع فريد لا نكاد نرى لها نظيرًا فى تاريخ الغناء العربى، فالرجل يملك حضورًا رائعًا على مسرح الغناء وهو يشدو (يا مال الشام ياللاه يا مالى.. طال المطال يا حلوة تعالى)، ولكن قمة ما بلغه صوت ذلك الفنان الذهبى تجلى فى رائعة الشعر العربى التى تقول (قل للمليحة فى الخمار الأسود ؞ ماذا فعلتِ بناسكٍ متعبد)، ولشاعر هذه القصيدة قصة شهيرة هى التى دفعت بالخمار الأسود إلى الصدارة فى أسواق ذلك العصر، ولقد شاهدت مؤخرًا مقطعًا تليفزيونيًا للفنانة والإعلامية نجوى إبراهيم مع فنان الشهباء الكبير.
حيث تحدث عن تاريخه كمؤذنٍ فى أحد المساجد بإدارة أوقاف حلب، ثم أدى الأذان فى ذلك البرنامج بصوتٍ ملائكى يشد الأسماع ويمزج بين الإيمان الصادق والطرب الصوفى، ولقد رحل ذلك الفنان الفريد فى أوائل شهر نوفمبر 2021، تاركًا بصمة لا تنسى وأثرًا لا يمحى، وكنت قد عرفته عن قرب فى تسعينيات القرن الماضى عندما كنت مساعدًا لوزير الخارجية للشؤون العربية والشرق الأوسط، وكان صباح فخرى يتردد على أوبرا القاهرة فى حفلات ساهرة مثلما كان يفعل وديع الصافى- رحمهما الله- كنموذجين فريدين للغناء السورى واللبنانى، فالشام الكبير مستودع تاريخى للأشعار والأذكار والموشحات والأغانى، ولقد كانت صلتى بصباح فخرى من خلال زميلٍ كان هو النائب المساعد معى، وقد رحل عن عالمنا منذ سنوات قليلة.
وهو السفير محمود عبدالجواد الذى خدم سنواتٍ فى سفارتنا بدمشق كنائب للسفير وربطته خلال تلك الفترة صداقة قوية بالفنان صباح فخرى، وكان كلما جاء ذلك الفنان إلى القاهرة بدأ زيارته بلقاء مع السفير محمود عبدالجواد، وكثيرًا ما كان يتصل بى ذلك الزميل الراحل ليقول لى إن صباح فخرى معه فى زيارة للمكتب ويريد لقائى للتحية، وكنت أطرب لذلك كثيرًا وأسعد بلقاء ذلك الفنان المتميز وقدرته فى الصوت والأداء والحركة على المسرح واهتزازه الخفيف، مما يعكس الطرب الذى يشعر به هو ذاته واندماجه مع اللحن التاريخى والقصيدة الرائعة والأشعار التى تلتصق بالوجدان وتبقى فى خزينة الذكريات طوال الوقت.
وقد شهدت الأوبرا المصرية حفلاته القليلة، لكنها كانت واسعة الانتشار شديدة التأثير، لأن الموشحات والقدود هى ألوانٌ من تراث ثقافتنا العربية وحضورها القوى بين ألوان الطرب الأخرى، وسوف يظل صباح فخرى أيقونة فى تاريخ الغناء العربى، يكمل لوحته الرائعة مع الأصوات التاريخية التى ظهرت فى موصل العراق، وأقول له فى النهاية وهو فى رحاب ربه: يا شادى الألحان أطربتنا حيًا وميتًا، فجزاك الله عن الفن الأصيل والطرب الجميل خير الجزاء.
جريدة المصري اليوم
https://www.almasryalyoum.com/news/details/2458472