جرى إقصاء الرئيس السودانى الراحل جعفر نميرى عن الحكم عام 1985 وخلفه قائد عسكرى متفرد هو المشير عبد الرحمن سوار الذهب الذى ضرب مثلاً فريدًا فى التخلى عن المنصب والابتعاد عن الأضواء وفتح الباب لحكومة ديمقراطية يترأسها الراحل الكبير الإمام الصادق المهدى والد السيدة مريم وزيرة الخارجية فى الحكومة العسكرية المدنية التى ترأسها السيد عبد الله حمدوك، والمهم فى هذا المقام أن الرئيس الراحل مبارك اختارنى مبعوثًا بينه وبين الرئيس المعزول نميرى بحكم عملى سكرتيرًا للمعلومات لرئيس جمهورية مصر العربية، فكنت أتردد على الرئيس نميرى فى مقر إقامته فى أحد قصور الرئاسة المطلة على شارع العروبة بمصر الجديدة وأجلس إليه وأسمع منه وهو يجتر ذكرياته ويستدعى الأحداث ويحكى لى كل مرة قصة أو موقفًا عرفه فى أثناء السلطة، وبالمناسبة فهو لم ينجب ذرية ولم يكن له ولد كما أنه فقد أبويه فى حادث سيارة عندما كانا فى طريقهما لحفل إحدى الزيارات كان يحكى لى عن عدائه للسيد الصادق المهدى ويحاول تشويه صورته بما لا أحب أن أنقله عنه، خصوصًا أن صلتى بالسيد الصادق المهدى تمتد لعدة عقود وكنت أحمل له تقديرًا خاصًا حتى رحيله فى عصر الكورونا، ثم يحكى لى نميرى أيضًا عن خصومه الذين أعدمهم عندما حاولوا الانقلاب عليه، وعندما سألته عن إعدام الزعيم اليسارى شفيع أحمد استفاض فى عرض وجهة نظره المعادية لتلك التيارات السياسية، وعندما انتقدته فى إعدام الرجل المسن الذى جاوز الخامسة والسبعين محمود محمد طه أجاب بأن القانون هو القانون، وكان جعفر نميرى فى ذلك الوقت يبدى فى أحاديثه احتمال عودته إلى السلطة أو على الأقل تمنى ذلك وهو أمر لم يحدث لأن التيار العام فى الشارع السودانى كان معاديًا له منتقدًا لسياساته مثلما هو الأمر بالنسبة لسابقيه، وذات يوم كان فى حالة معنوية عالية فشجعنى ذلك بأن أبادره قائلاً: إن هناك اتهامًا تاريخيًا لشخصك فى قضية تهريب يهود الفلاشا من إثيوبيا عبر الأراضى السودانية، وهنا انفجر باكيًا رافضًا ذلك الاتهام ومحاولاً تبرير تصرفه بأن هناك عناصر من بعض رجال الأعمال فى شرق إفريقيا بل ومن عرب إسرائيل هم الذين أسهموا فى إتمام تلك الصفقة المشبوهة وإلقاء التهمة على رئيس السودان، ولقد لاحظت يومها تأثره الشديد وإحساسه بالضيق الزائد من هذه التهمة الشائنة التى تعتبر خيانة لقضية شعب عربى وطعنة للكيان الفلسطينى، وذات يوم اتصل نميرى بمبارك وطلب منه إيفادى إليه لكى أحمل رسالة منه للرئيس المصرى وكان ذلك عام 1989، ويومها قال لى نميري: (أبلغ الرئيس أن حراكًا قويًا فى الجيش السودانى من عدد من الضباط الذين أعرف معظمهم سوف يطالبون بعودتى والانقلاب وشيك الحدوث خلال أيام)، فلما عدت إلى الرئيس المصرى وراجع أجهزة الأمن السياسى الخارجى فى القاهرة كان ردهم: (إن شيئًا ما على ما يبدو يجرى فى الخرطوم، ولكننا لانظن أن الجيش السودانى سوف يعيد نميرى إلى السلطة)، وهذا ما حدث حينها بالفعل، فلقد قفز وقتها إلى مقعد الحكم عمر البشير ورفاقه وكانوا فى معظمهم من المنتمين للجبهة الإسلامية مع بعض العناصر البعثية واليسارية، وقد كانت وجهة نظر الدكتور بطرس غالى وزير الدولة للشئون الخارجية المعنى بالقارة الإفريقية والمهتم بالمسألة السودانية أن العناصر القادمة للسلطة فى الخرطوم حينذاك ليست مؤيدة لمصر أو موالية لها على الإطلاق، ويبدو أن حدس الدكتور غالى كان هو الأصح على الرغم من أن الرئيس مبارك كان متحمسًا لثورة الإنقاذ فى السودان ورافضًا لهذا التحليل.
ولقد بقى نميرى فترة يجتر أحزانه ويردد ذكرياته وقام بأول رحلةٍ له بعد المنفى إلى الأراضى المقدسة فى مكة والمدينة، وعندما تدهورت صحته فتحت له الخرطوم أبوابها وعاد إليها حتى رحل عن عالمنا وجرى تكريمه ميتًا بعد أن حرم من ذلك حيًا، والجدير بالذكر أننى عرفت الأخلاق الطيبة للشعب السودانى من خلال زواره الذين كانوا يترددون عليه بمن فيهم سفير السودان والمستشار الصحفى وكل من عرفوا نميرى فى السلطة وخارجها، فالسودانيون شرفاء فى معظمهم يتعاملون بوضوح وشفافية فى أغلب الأوقات.
جريدة الأهرام
https://gate.ahram.org.eg/daily/NewsQ/832295.aspx