يشهد هذا الأسبوع، الذى يصادف أحد أيامه الرابع عشر من نوفمبر عيد ميلادى، وفى ذات اليوم عيد ميلاد أستاذى الدكتور بطرس بطرس غالى، الذى رحل عن عالمنا منذ أعوامٍ قليلة بعد حياة حافلة، وإذ أشترك معه فى يوم المولد مع اختلاف السنين، فإن ولى عهد بريطانيا الذى يزور مصر هذا الأسبوع أيضًا من مواليد ذات اليوم مع اختلاف السنين.
وهكذا شاء القدر أن أرى فى أسبوع عيد ميلادى من يشاركوننى يوم المناسبة، متذكرًا أسماء أخرى يأتى عيد ميلادها فى الرابع عشر من نوفمبر، منهم عميد الأدب العربى د. طه حسين، وجواهر لال نهرو رئيس وزراء الهند الشهير، والملك الحسين بن طلال- رحمهم الله- إن يوم عيد ميلاد كل منّا يأتى كل عامٍ مرة ليذكّرنا بمُضى السنين وكر الأعوام وانفراط عِقد العمر، فيبدأ المرء فى تأمل فلسفة الحياة ودورة الزمن على هذا الكوكب الذى نعيش فيه، وسوف يلاحظ كل منّا أن لكل عقدٍ فى حياته ملامح معينة، ولذلك فإن الانتقال من رقم إلى رقم يبدو عاديًا، ولكنه يكون فارقًا عند الانتقال من عقدٍ لآخر، بما يعنى بداية عشر سنوات جديدة قد تكتمل أو لا تكتمل، فتلك إرادة الخالق وحده.
والذى يعنينى هنا هو أن طعم أعياد الميلاد فى زمن الكورونا قد اختلف، فنحن نلتقى بأصدقاء أو أقارب لنا ونسأل عن آخرين فتكون الإجابة أنهم قد رحلوا فى صمت وانسحبوا بسبب الفيروس اللعين دون وداع، خصوصًا أن الجنازات أصبحت تتم دون إعلان، والعزاءات لا تجرى إلا فى ظروف صعبة واحترازات مزعجة، فانقطعت الأواصر الاجتماعية وتاهت العواطف الإنسانية وأصبحنا أمام عالم جديد ودنيا مختلفة فى ظل أوهامٍ وأحلام وشائعات وحكايات حول وجود خطة سرية لتقليل حجم الجنس البشرى والتحكم فى أعداده، بحيث يكون متلائمًا مع الحاجات المتاحة من مصادر الطاقة، وغير ذلك من مقومات الحياة التى أصبح توزيعها على أكثر من 7 مليارات نسمة مدعاة لقلة تأثيرها وضعف إنتاجها.
ونحن نتساءل الآن: هل المنطقى أن تكون محاولة إنقاص الأرقام العالية لأعداد البشر بالتحكم فى نسبة الوفيات؟!.. بينما الأوفق والأدق هو أن يكون الأمر مجديًا بالتحكم فى المواليد وتنظيم النسل بدلًا من معاملة كبار السن بطريقة غير آدمية باعتبارهم سلعًا قديمة انتهى عمرها الافتراضى، ولا بأس من رحيل الأغلب الأعم منهم بنقص المناعة أو جلطات الرئتين أو تداعيات الكورونا التى يأتى بها ذلك الفيروس بشتى أنواعها، فالحجز عند المنبع هو أكثر الحلول إنسانية، إذ لا يتنافى مع القيم الدينية والأخلاقية، لأنه لا يعنى إزهاق روحٍ أو التخلص من آدمى مهما طال به الزمن وتقادم به العمر.
وها أنت يا يوم مولدى الذى اعتبره الشاعر الراحل كامل الشناوى «يومًا بلا غد» تصر على تذكيرنا كل عام بما فعلناه وما لم نقدم عليه.. وأكرر مرة أخرى كما قلت فى كتابات سابقة إن الندم الإيجابى أفضل كثيرًا من الندم السلبى، إذ إن الشعور بالندم على شىءٍ فعلناه هو أجدى بكثير من ذلك الندم السلبى الذى يذكرنا بشىءٍ أحجمنا عنه، وأود أن أطرح هنا ملاحظات ثلاث:
أولًا: إن معدلات الأعمار قد تغيّرت بحق ولم تكن هى تلك المعروفة حتى خمسين عامًا مضت، فأصبح أهل السبعينيات وكأنهم فى خمسينيات العمر فى القرن الماضى، وأصبحنا نرى من هم فوق الثمانين بل من يقتربون من التسعين أو حتى يتجاوزوها وكأنهم يعيشون حياتهم العادية، بل تحكمهم آمال متفائلة بالمستقبل القريب.
ثانيًا: إن الزعامات التاريخية وقادة الرأى العام، من مفكرين ومثقفين وفلاسفة وعلماء، قد عاشوا حياة قصيرة، بينما امتد العمر بالبعض منهم على نحوٍ أتاح لهم أن يتركوا بصماتٍ مهمة، فمصطفى كامل رحل عن عالمنا وهو دون الخامسة والثلاثين، فى حين رحل جمال عبدالناصر وهو فى الثانية والخمسين، وهى وغيرها معدلات عمرية صغيرة تدعو إلى الإحساس بأن الإنسان هو ابن عصره، وأن أعمارًا قصيرة قد حفلت بإنجازات باهرة.. بينما عجزت أعمار طويلة ع ن تحقيق الحد الأدنى من القبول الثقافى والاجتماعى فى عصرها.
ثالثًا: إن معدلات الأعمار بين النساء دائمًا توضح أنهن أطول عمرًا وأكثر تحملًا من كثير من الرجال، ولله فى ذلك حكمة، ولذلك ظلت الأعمار دائمًا بيده وحده.. (ومن نعمره ننكسه فى الخلق أفلا يعقلون).
إن حديث الذكريات يفتح أبوابًا لا تغلق من الجدل الفلسفى والتفكير السفسطائى، ولكننا نغلق الملفات سريعًا لنجرى فى دروب الحياة، نواصل ما كنّا نفعل وكأن شيئًا لم يكن!.
جريدة المصري اليوم
https://www.almasryalyoum.com/news/details/2463776