يتحدث كثيرٌ من المعنيين بالشأن التركى عن القفزة الاقتصادية الكبيرة فى مستوى المعيشة لدى هذا الشعب فى العقدين الأخيرين، ويحاول أنصار أردوغان الربط بين قيادته وبين ما حدث، وأنا أظن أن ذلك ربطٌ تحكمى لا يعبر عن الحقيقة، فالرجل المسؤول عن تطور الاقتصاد التركى وتحديث كثير من جوانب النشاط التجارى إنما هو رئيس وزراء تركيا الأسبق فى ظل رئاسة سليمان ديمريل، وأعنى به تورغوت أوزال ذلك الرجل الذى يعتبر نقطة التحول الحقيقى وحجر الزاوية للاقتصاد التركى الحديث، ولى معه ذكريات كثيرة من لقاءاته مع الرئيس الراحل مبارك.
وأذكر أنه كان يثير مع الرئيس المصرى باهتمام خاص الوضع السعودى فى السياسة الإقليمية بالمنطقة، ومازلت أتذكر يوم نادانى الرئيس مبارك أثناء لقاء منفرد لهما استفسر فيه تورغوت أوزال عن العلاقة بين الشيعة والسنة فى العالم العربى، خصوصًا فى الجزيرة العربية، والفروق الجوهرية بين أتباع المذهبين، وطلب منى الرئيس مبارك يومها أن أشرح للرئيس التركى تلك الفروق منذ بدايتها التاريخية حتى الآن، وكان أوزال ينصت باهتمام ويسأل أسئلة ذات مغزى تكاد تعيد إلى الأذهان ذلك الصراع بين الدولة العثمانية السنية والدولة الإيرانية الصفوية الشيعية، وكنت ألاحظ أن أوزال- وهو بدين الجسد- أتاتوركى النزعة شأن كل أبناء جيله من الساسة الأتراك والحكام الذين ارتبطوا بمفهوم الأهمية التاريخية للدولة العثمانية.
وأنا أتذكر أنه قام بأداء العمرة فى الأماكن المقدسة هو والسيدة زوجته التى كانت تدخن السيجار فى تصرفٍ غير معتاد بالنسبة للمرأة عمومًا، حيث لا تبدو العلاقة وثيقة بينهن وبين تدخين السيجار، وعندما عاد تورغوت أوزال من رحلته الدينية هو وزوجته هاجمته الصحف هجومًا عنيفًا على اعتبار أن ما فعله بشكل علنى يختلف مع مبادئ أتاتورك الذى لا يحبذ علانية الحديث عن الأديان أو ممارسة الشعائر، وقد كان النظام السياسى التركى وقتها نظامًا برلمانيًا يعتمد على رئيسٍ منتخب للحكومة هو صاحب القرار الأول باعتباره مصدر السلطة المنتخبة والمعبر عن اتجاهاتها، بينما يبقى رئيس الجمهورية رمزًا للبلاد تقتصر مهامه فى الغالب على أن يكون حكمًا بين الأحزاب، مقتصرًا على أداء واجباته المراسمية باعتباره الرجل الأول فى بروتوكول الدولة.
ولكن رئيس الوزراء يسبقه فعليًا بحكم صلاحياته التنفيذية ودوره الفاعل، ولقد تميزت فترة تورغوت أوزال فى حكم تركيا بكثير من التوازن والاعتدال، فكان من أهم أهدافه الاقتصادية الانفتاح على دول الخليج العربى، وقد استطاع أن يوجد سوقًا لبلاده فى تلك المنطقة، وتعتبر العلاقات المصرية التركية بعهده فى أفضل أوضاعها. نعود إلى قيامه بالعمرة وما نشرته الصحف التركية من صور له بالمسجد الحرام، فإذا الأتاتوركيون يهاجمونه بضراوة إلى حدٍ جعله ينشر صورة له فى الأسبوع التالى هو والسيدة قرينته على البلاج بملابس البحر فى أحد المصائف التركية لإحداث نوعٍ من التوازن أمام المواطن التركى، وبينما كان سليمان ديميريل شريكًا فى الحكم كرئيسٍ للدولة إلا أننا لم نشهد صدامًا بينهما مثل ذلك الذى حدث منذ سنواتٍ قليلة بين رجب طيب أردوغان وعبد الله جول.
وأعود بذاكرتى الآن إلى يوم كنت فيه أنا وأسرتى الصغيرة فى مدينة إسطنبول وقد أخذنا إحدى سيارات الأجرة متجهين لأحد القصور العثمانية لزيارتها، فإذا بالسائق وهو يستمع للراديو بالتركية يبدى علامة دهشة وحزن، ففهمت منه أن تورغوت أوزال قد رحل عن عالمنا، وأردت أن أعرف منه هل كانت الوفاة طبيعية أم حادث اغتيال، فأشار إلى رأسه كأنه ينام لكى يوضح لى أن الوفاة طبيعية، ويومها طفت على ذاكرتى كل مشاهداتى فى لقاء رئيس الوزراء التركى الواقعى الذى سبق حكومات نجم الدين أربكان ورجب طيب أردوغان، ونقل تركيا نقلة نوعية وترك بصمة قائمة على اقتصاد بلاده حتى اليوم.. فكأنه هو الذى بنى وأردوغان هو الذى جنى!.
جريدة المصري اليوم
https://www.almasryalyoum.com/news/details/2473539