ما أكثر المرات التى اتجهت فيها أبصار الناس نحو مصر عبر تاريخها الطويل، وأختار الآن مناسبتين تفصل بينهما عدة قرون، لكن يجمع بينهما الشعور الكامن بالارتياح والسعادة عندما نتحدث بشكل إيجابى عن أرض الكنانة وسحرها وأحداثها التى تضرب فى جذور التاريخ، فقد عرفت مصر الكتابة - مخطوطة ومطبوعة - منذ آلاف السنين.
وكانت هى محطة البداية فى حلم الإسكندر الأكبر لتكوين إمبراطوريته عندما جاء ذلك الشاب المقدونى غازيًا للجنوب متجهًا صوب الشرق، وجاء بعده بمئات السنين نابليون بونابرت بدوافع مماثلة، لكن فى ظروف مغايرة ترتبط بالتنافس بين بريطانيا وفرنسا على المستعمرات وفى قلبها مصر بحكم موقعها الجغرافى بين حوض البحر المتوسط وحوض نهر النيل فضلاً عن كونها حجر الزاوية لحضاراتٍ تعاقبت وأحداث تتابعت، والذى يهمنا فى هذه المناسبة هو أن نؤكد أن مصر درة الشرق عبر مراحل التاريخ المختلفة.
وكانت هى نقطة البداية فى كل الظروف، فعندما سعى إليها الإسكندر اتجه إلى معبد آمون فى سيوة، وأعلن نفسه ابنًا للإله حتى يتقرب إلى قلوب المصريين، ونفس الشىء فعله بونابرت عندما أصدر منشوره الشهير مغازلا مشاعر المصريين بالحديث عن دوره كمنقذ للشعب المصرى المسلم وانتشاله من حكم العثمانيين وظلم المماليك، وذلك يعنى أن كلا من الإسكندر المقدونى ونابليون بونابرت قد أدركا أهمية العامل الدينى فى حياة المصريين وتأثيره لدى جماهير الشعب المصرى، بدءًا من فترات الحكم الفرعونى حتى الآن، وإذا كانت الدولة الهيلينية قد توافقت مع الحضارة المصرية القديمة، وأفرزت حكم البطالسة من خلفاء الإسكندر الأكبر، فإن ذلك جاء استجابة للتواصل الثقافى التاريخى بين الحضارتين المصرية والإغريقية.
وهو ما عبر عنه عميد الأدب العربى طه حسين أصدق تعبير فى كتابه مستقبل الثقافة فى مصر الصادر عام 1938 وتلك هى أقوى إشارة إلى تلك العلاقات الوثيقة بين دول البحر المتوسط وحضاراته الكبرى، وينسحب الأمر نفسه على العلاقات المصرية الفرنسية التى تتميز بالتوافق والانسجام فى مراحلها المختلفة، ولا شك أن الحملة الفرنسية، بجانبها الثقافى، قد أرست مبكرًا قواعد ذلك التواصل ودعمته، وقد مضت السنون ودارت الدوائر، وجرت مياه كثيرة تحت الجسور، وفى النهاية أطل الرمز الوطنى المصرى ليرسى قواعد المجد وحده، ويعيد تلك المشاهد التى رسخت فى وجدان الشعوب قبل أن تتناولها الحكومات أو يسردها التاريخ، فالانفتاح المصرى المرتبط بعبقرية الموقع جعل لها وضعًا خاصًا أمام حضارات العالم القديم، وهيأ لها دورًا لم يتحقق لغيرها، ولذلك يظل الإسكندر الأكبر باسمه الضخم فى التاريخ القديم وبونابرت باسمه الذى يثير الجدل مرتبطين معًا بالدولة المصرية قديمًا وحديثًا.
ومن هنا اكتسبت مصر ذلك الألق التاريخى والتميز الجغرافى الذى جعل تاريخها ملخصًا لتاريخ العالم فى كل مراحله، فقد استأثرت مصر بالتراث الحضارى وظلت دائمًا رائدة وقائدة، قد يخبو نورها أحيانًا ولكن الشعلة لا تنطفئ، قد يتراجع دورها أحيانًا أخرى، لكن اسمها وتأثيرها لا يزول لأنها عصية على السقوط، ومازالت بصمات التاريخ مطبوعة على جبين الدهر تؤكد للمصريين أن مسعاهم للصحوة النهضوية لن يتراجع، لأن لديهم رصيدًا ضخمًا من تراث المعرفة والعلم والثقافة والفكر.
لذلك فنحن نحلم اليوم بقدرتنا على توظيف المكان والمكانة إلى حيث ينبغى أن ترسو الوطنية المصرية على شاطئ الأمان بعد معاناة العصور ومتاعب الأحقاب، فما من دارسٍ لتاريخ الإنسانية إلا ويصطدم بهذين الاسمين الكبيرين، وقد جذبتهما مصر وانطلقا منها مع كل الأحلام والأوهام التى تلوكها أحاديث البشر ويسجلها المؤرخون باعتبارها نقطة تحوّل وحجر زاوية فى تاريخ الإنسان بوعيه الحى وحيويته المتجددة ورؤيته البعيدة.
جريدة المصري اليوم
https://www.almasryalyoum.com/news/details/2488362