كانت علاقتى بالزمن دائمًا علاقة حدية فأنا أؤمن أن الفارق بين شخصٍ وآخر هو قدرته على استخدام الوقت وتوظيف الزمن لتحقيق أهدافه العامة والخاصة، ولقد اكتشفت مع تقادم العمر أن الذين كانوا يصفوننى بأننى (نمكى) يسعى أحيانًا نحو الكمال فى كل عمل يؤديه ينجح فى ذلك أو يخفق، إن الذين كانوا يقولون ذلك عنى كانوا على حق، فقد أرهقت عمرى فى الانتقال من النظرة الشاملة إلى التفاصيل الدقيقة، وأحيانًا يحدث العكس فنجم عن ذلك توظيفٌ أمثل لبعض سنوات عمرى وليس كلها بالطبع، وما ينطبق على الإنسان الفرد ينطبق أيضًا على الشعوب وينسحب على الدول، ولعلى أكون واضحًا عندما أقول إن ما أراه على أرض مصر فى السنوات الأخيرة هو بحق نموذج للاستخدام الأمثل للوقت بعد سنواتٍ طويلة من (الفرص الضائعة)، فكل ساعةٍ تمر تعنى أن عقولاً تفكر، وسواعد تعمل، وقيادة تستشرف المستقبل وتمضى على الطريق الصحيح بإرادة صلبة وعزيمة لا تتراجع تعرف غاياتها بوضوح وتسعى نحو أهدافها بشكل مباشر، ففى كل ساعة إنجاز وفى كل يومٍ عمل يكتمل، ومصر تمضى فى سباق مع الزمن لتعويض عشرات السنين من الاسترخاء والاستسلام للواقع، إننا نستقبل عام 2022 وكل الملفات مفتوحة، ملف التعليم، وملف الصحة، وملف العشوائيات، إلى جانب برنامج ضاغط للإصلاح الاقتصادى مع اهتمامٍ أساس بالقوات المسلحة درع الوطن وسيفه، إلى جانب نشاط دبلوماسى دؤوب على كل الجبهات، ومدن جديدة تظهر، وجامعات حديثة تضاف مع التركيز على الجانب الإنسانى الذى يعنى بذوى الهمم وأصحاب الاحتياجات الخاصة ويدمجهم فى المجتمع الذى ينتمون إليه لتحقيق قفزة هائلة بالملايين الصامتة منهم عبر السنين، ومحاولات جادة لترشيد النظرة نحو رسالات السماء واحترام فضيلة التسامح والقفز فوق محاولات زرع الفتنة أو تغذية التطرف، فالشعب الذى عانى كثيرًا عبر العصور ودفع فواتير غالية فى تاريخه الحديث يدخل إلى العالم المعاصر من بوابة الحداثة والتقدم وهو يحمل مشروعًا نهضويًا طال انتظاره، ولعلى أشير هنا إلى بعض الملامح المرتبطة بواقعنا ومستقبل أجيالنا:
أولاً: لقد زرت العاصمة الإدارية عدة مرات وفى كل مرة أعود مندهشًا لما جرى هناك ولما تشهده تلك المدينة الرائعة من إنجازاتٍ هائلة بمبانيها الشاهقة وتصميمها المستقبلى الفريد، فضلاً عن الاهتمام بالذوق العمرانى حتى يفتح الستار ذات يوم عن عاصمةٍ سياسية وإدارية للدولة المصرية إلى جانب القاهرة التى أصبحت متحفًا كبيرًا للزمان والمكان وإرثًا ضخمًا وتراثًا عريقًا، كما زرت أيضًا مدينة العلمين الجديدة وأدهشنى فيها حجم الإنجاز السريع بحيث يتحقق ما بين كل صيفٍ ومايليه إنجازٌ يعادل مجهود عدة سنوات، وفى ظنى أن أهمية العلمين الجديدة وما حولها هو التخلص من جريمة الاستخدام الأحمق للساحل الشمالى فى العقود الأخيرة، حيث تحول إلى كتل أسمنتية جعلت استخدام هذا الشاطئ الساحر مدة لاتزيد على أشهر قليلة كل عام، بينما ينبغى توظيفه للإقامة الدائمة على مدى السنة واستخدام أمثل فى ظل الازدحام السكانى الذى لم نتمكن من وضع خريطة مستقبلية ملزمة لحدوده القصوى فى ظل عالم الصراعات والمنافسات بل الأوبئة أيضًا.
ثانيًا: لقد تناثرت الجامعات الأهلية الجديدة فى أنحاء الوطن مع شراكة ندية مع المؤسسات التعليمية المرموقة والجامعات الكبرى من أنحاء العالم، لقد تحقق لنا ما لم نكن نحلم به على مدى السنوات الماضية، مع قفزة هائلة وتطوير شامل فى منظومة التعليم العالى والتعليم العام أيضًا، بحيث أصبحنا نواكب أحدث النظم المعاصرة ونمضى مع أفضل الأساليب الحديثة وتم تجسير الفجوة التى فصلتنا عن زماننا وجعلتنا دائمًا أسرى للماضى وعشاقًا للتراث لا ننظر إلى المستقبل ولا نتمسك بمفاتيح أبوابه الحقيقية.
ثالثًا: إن التوازن الملموس فى علاقات مصر الخارجية على المستويات الإقليمية والدولية بدءًا من الدول العربية والمحيط الإفريقى وصولاً إلى الفضاء الدولى بكل اتجاهاته يدعونا إلى الشعور بالثقة فى مستقبل سياستنا الخارجية وجهازنا الدبلوماسى على المستويين المدنى والعسكرى، فالتعاون بين القوات المسلحة المصرية ونظيراتها من دول العالم المختلف تشير إلى عهدٍ جديد من الانفتاح على تجارب العصر العسكرية والمدنية، ويكفى أن مصر تقتحم هذا العام واحدًا من أكبر المؤتمرات الدولية العالمية باستضافة المؤتمر الدولى لتغير المناخ على أرضها فى سابقةٍ جديدة تضيف إلى مصر رصيدًا لايخفى على أحد.
رابعًا: لم تغفل مصر عن تراثها العريق الفرعونى والقبطى والإسلامى، فهى تفتح هذا العام أكبر متحفٍ فى العالم المعاصر بل أغناها بالمحتويات وأكثرها ثراءً وعظمة واحترامًا، كما أنها تملك أيضًا سلسلة طويلة من المتاحف الرائعة يتصدرها متحف الحضارات مع غيره من المتاحف فى ربوع الوادى ومدن الدلتا.
.. إن مصر تتهيأ للانطلاق بمشروعها النهضوى دون أن تتأثر بمحاولات التشويه وشائعات التعويق، بل هى ماضية فى طريقها تنظر أمامها بكل الأمل وتُعنى بالربط الذكى والواقعى والمعاصر بين ماضيها العريق ومستقبلها الواعد، لاتتدخل فى شئون غيرها ولاتندفع فى صراعاتٍ طويلة إلا إذا فرضها عليها من لايريدون لها خيرًا، ولعل ما جرى فى أزمة سد النهضة والتصرف المصرى الحكيم الذى يدرك أنه لن يضيع حق وصاحبه يقظ ويعرف متى وكيف يسترد حقوقه التاريخية رغم غدر الأصدقاء وتهاون الأشقاء!
جريدة الأهرام
https://gate.ahram.org.eg/daily/NewsQ/838304.aspx