لاحظنا فى العقود الأخيرة أن مواجهة مصطنعة قد بدأت بين المفهوم السائد للأديان باعتبارها علاقة بين الفرد وربه أو بين المخلوق وخالقه، وبين معنى الوطن كما عرفناه من خلال دراسة الحضارات والقوميات وسيكولوجية الشعوب.
وفى ظنى أن تلك المواجهة هى مغالطة فكرية كبرى، لأنه لا تعارض بين الأديان والأوطان، فتلك ثنائية طبيعية فى تكوين النفس البشرية التى تقوم هى الأخرى على ثنائية وثنية الجسد وسمو الروح، والأمر كذلك فيما يتصل بالعلاقة بين الوطنية والتدين، فالوطنية إحساس مباشر بمعنى الانتماء لوطنٍ بذاته، بينما يقوم الدين على مفهوم الإيمان المطلق بفلسفة الخلق ووحدانية الإله ورفض الشرك به.
ولقد دعت كل الأديان السماوية بل الأرضية إلى الارتباط بالأرض والتعلق بالوطن، فالسيد المسيح عليه السلام - باعتباره أهم لاجئ إلى مصر فى تاريخها الطويل - عندما جاء إلى وادى النيل من فلسطين عبر سيناء، مكثت العائلة المقدسة عدة سنوات بين الدلتا والوادى، فقد عاد إلى وطنه مرة أخرى، وكذلك الأمر مع النبى محمد صلى الله عليه وسلم، عندما خرج من مكة المكرمة مُكرهًا بسبب اضطهاد الكفار وتآمرهم عليه، قال قولته الشهيرة ناظرًا إلى وطنه مكة بعبارة تفيض وطنية وانتماءً (والله إنك أحب البلاد إلى، ولولا أن أهلك أخرجونى ما خرجت).
كما أن القرآن الكريم يتحدث أيضًا بلغةٍ لا لبس فيها عندما يؤكد الحق تبارك وتعالى قوله للناس كافة (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم).. وهكذا يبدو المعنى واضحًا وصريحًا ويمثل ردًا قاطعًا على كل من يحاول الخلط بين الدين والوطن واختلاق صدامٍ بينهما لا يبدو له أى وجود حقيقى.
وأنا أكتب الآن بهذا المعنى بعدما روعتنا فى السنوات الماضية شعارات تتحدث عن الأديان العظيمة باعتبارها قوميات راسخة، والأمر عندى غير ذلك، فالدين كالماء الطهور لا يجب إقحامه فى السياسة أو النزول به لدنيا الصراع بين أطراف مختلفة، فلم نر دينًا حارب المبادئ الوطنية، بل على العكس هو يدعو للاهتمام بها والتمسك بأهدافها، فيقول أمير الشعراء أحمد شوقى فى بيته الشهير (الدين يـُسرٌ، والخـلافة بـَيعة والأمر شورى والحقوق قضاء)، وهو يلخص بذلك المعنى السامى الذى عبر عنه نبى الإسلام بقوله (أنتم أعلم بأمور دنياكم).
ولذلك فإن الاحترام الواضح من جانب الديانات إنما يلخص الحكمة الخالدة القائلة: (دع ما لله لله وما لقيصر لقيصر)، وهنا يصبح مبدأ المواطنة وصية دينية، فضلًا عن كونه ضرورة قومية، فقد يكون أبناء الوطن الواحد مختلفين فى أديانهم وأعراقهم وأجناسهم وألوانهم ولكنهم جميعًا أبناء الأرض الطيبة عاشوا فوقها رحلة أعمارهم، وبذلك تتساوى مراكزهم القانونية مهما اختلفت درجة الثراء والغنى والفقر أو نوعية الإنسان، ذكرًا أو أنثى، فالمواطنة تبقى مظلة يتغطى بها الجميع، ويعيش فى إطارها أبناء الوطن الواحد دون تفرقة أو تمييز أو تهميش.. وما أكثر النماذج عبر التاريخ التى توضح ارتباط الإنسان بوطنه على نحوٍ يتأكد به إيمانه بدينه وليس العكس!.
ولن ترتفع رايات الأمم وأعلام الشعوب إلا إذا ابتعدت عن ذلك الخلاف المصطنع، الذى يسعى به البعض إلى استغلال الدين فى تمزيق النسيج الوطنى والعبث بإرادة الشعوب، كما شهدنا منذ عدة سنوات فى بلادنا عندما حاولت فئة منّا كانت قد خرجت علينا لترفع شعارات تقلل من قيمة الوطن وتسىء للوطنية، وتتوهم تعارضًا بينها وبين الدين، متناسين أن الأممية فى الإسلام هى أممية الدعوة، وليست بالضرورة أممية الحكم، كما نقول دومًا فإن الدين للديان ولنا الأوطان، بل إن التوغل فى دراسة الأديان يؤكد بالضرورة ارتباط مفهوم الوطن بالإنسان المعاصر.
جريدة المصري اليوم
https://www.almasryalyoum.com/news/details/2501974