عشت طوال سنوات عمرى منذ بدأت امتلك الوعى بما يدور حولى متجاوزًا حماس الشباب إلى حكمة منتصف العمر، وكان تساؤلى يدور لماذا نحن المصريين لا نواصل العمل الجاد ولا نكمل البناء الذى نبدأه؟ لقد تحدثنا طويلا عن الثورة الإدارية ثم زاد الروتين تعقيدًا، ثم تحدثنا عن الثورة الخضراء ثم انكمشت مساحة الأراضى الزراعية بالسطو عليها وتحويلها إلى كتل أسمنتية، وما أكثر الشعارات التى رفعناها فى العقود الأخيرة ثم انتهت كما بدأت فى صمتِ وشحوب وانزواء، وأتذكر الآن أن وزير الخارجية الراحل المثقف رفيع الشأن د.محمد حسن الزيات - زوج السيدة أمينة ابنة عميد الأدب العربى - كان قد زار الهند فى مطلع ثمانينيات القرن الماضى وكان قد عمل سفيرًا لمصر فيها قبل ذلك بعدة سنوات، وسألنا يومها نحن شباب السفارة المصرية: لقد كنا نحن والهنود على خط واحد نشترك فى صنع طائرة ونمضى على نفس الطريق، فلماذا تقدموا هم وتخلفنا نحن؟ وأذكر أننى قلت له يومها أن السبب يتوقف على عاملين رئيسيين هما الجدية والاستمرار، فقد كنّا فى مصر نفتقد حينذاك هذين العنصرين فكثرت التراجعات ونكص الوطن على عقبيه متقهقرًا دون أسباب ظاهرة، ونخر فى عظامه الفساد والإهمال فكانت النتيجة سلبية على الوطن والمواطن حتى وصفها رئيس مصر الحالى وقائد مسيرتها النهضوية الجادة بقوله لقد كان بلدنا شبه دولة للتدليل على أوجه القصور والفرص الضائعة التى أهدرتها السياسة والحكم فى العقود الأخيرة، ولقد انكشفت تلك الحقيقة حاليًا أكثر من أى وقت مضى إذ إن ما تم فى سنوات سبع فى جميع مناحى الحياة المصرية يكاد يعادل ما تم على أرض المحروسة فى نصف قرنٍ أو يزيد، ومازلت أتذكر أيضًا أننى كنت أسأل الدكتور الزيات رحمه الله عندما كان رئيسًا لجمعية الصداقة المصرية الهندية وكنت نائبه بعد عودته من الخدمة فى الهند: لماذا تقدم الآخرون وتأخرنا نحن؟ وكان يعيز ذلك دائمًا إلى افتقاد روح المبادرة وضعف القدرة على استمرار الجدية إذا جاز التعبير، وكانت إجابات ذلك الرجل العظيم ــ وزير خارجية مصر أثناء حرب أكتوبر ــ تدق فى ذهنى أجراسًا كثيرة متسائلا متى يأتى الوقت الذى نحسن فيه نحن المصريين استغلال عنصر الزمن بما يفيد بدلا من الوقت الضائع والإمكانات المهدرة والتجريف الدائم لكل الكفاءات مع الاستغراق فى مستنقع الشخصنة والبعد عن الموضوعية وانعدام القدرة على تشكيل الرؤية الشاملة واستشراف المستقبل البعيد حتى وقعنا أسرى للماضى نلوك الأفكار البالية ونردد الشعارات القديمة والدنيا تجرى حولنا والزمن يسبقنا ويبعدنا عن روح العصر؟ لذلك فإننى - شأن معظم المصريين حاليًا - أشعر بالارتياح النسبى لأن الزمن لا يمضى مهدرًا والوقت لا يضيع سدى فالملفات مفتوحة فى التعليم والصحة والصناعة والعشوائيات، فضلا عن إصلاحٍ اقتصادى ودعم حقيقى للقوات المسلحة وحربٍ ظافرة على الإرهاب ومحاولاتٍ جادة للاستفادة من كل الخبرات مع التركيز على الشباب والاهتمام بكل أبناء الوطن بدءًا من المرابطين على حدوده ووصولاً إلى أبنائه الأعزاء من ذوى الهمم، إنها حركة شاملة ومسيرة دءوب لصياغة حياة مصرية جديدة فى إطار نهضوى لا يعرف إقصاء الكفاءات ولا إهدار القدرات، ففى كل يوم نشهد جديدًا ونرى إنجازًا، ونحمد الله أننا قد عشنا لنرى بلدنا يحسن استخدام الوقت ولا يضيع الفرص ولا يفقد المزايا، بل ويمضى كالقطار السريع الذى لا ينظر خلفه ولكن يمضى بإرادة واعية فى مسيرة تقدم شاملة تهتم بالقضايا الكبرى ولا تغفل أيضًا أدق التفاصيل، ولنا هنا بعض الملاحظات:
أولا: إن استمرار هذه الثورة العمرانية الشاملة فى مختلف مناحى الحياة المصرية يقتضى وجود إرادة مشتركة لا تتردد ولا تتراجع ولكن تمضى على الطريق الصحيح حتى النهاية، ولعل المصداقية العالية فى نظام الحكم الحالى هى رصيد كبير لم نعرف له نظيرًا من قبل، فرجل الشارع يدرك أن المعاناة التى يشعر بها أحيانًا هى ثمنٌ طبيعى لبناء دولةٍ عصرية تقوم على التنمية المستدامة والديمقراطية الراسخة، وليس منّا من يدعى أن كل شيء وردى فهناك مشكلاتٌ مزمنة ورواسب تاريخية معقدة ولكنها تحتاج جميعًا إلى السياسة الرشيدة والإنجاز المستمر فى إيقاع سريع كالذى تشهده البلاد حاليًا.
ثانيًا: إن مصر بلد (منظور) إذا جاز لنا التعبير، وأنا أشعر أن كثيرًا من الأصدقاء بل والأشقاء ينظرون إليها فى مزيجٍ غريب من الحب دائمًا ولكن مع الغيرة أحيانًا، ولكن مصر القوية سوف تطل على أمتها من جديد وهى أكثر تقدمًا وحداثة ورقيًا.
ثالثًا: إن الضمان الحقيقى كى لا تنتكس التجربة المصرية الناهضة إنما يأتى من الشعور العميق لدى رجل الشارع بأن مصر تتغيّر وأن ذلك الكيان الفرعونى المسيحى الإسلامى الذى خاض الحروب الباسلة وانتصر لحقوق شعوب المنطقة كلها يعود اليوم ليمارس دوره دون استعلاء على الغير ودون تدخل فى شئون الدول الأخرى، فمصر القوية هى مصر الحديثة الشامخة أبدًا.
إننى أكتب هذه الكلمات فى بداية عامٍ جديد أتمنى فيه للكنانة أن تواصل مسيرتها الجادة وأن تمضى على طريقها الصحيح بخطى ثابتة وعزيمة قوية وشعور دائم بأنها عصية على السقوط، لأن الله الذى تجلى لنبيه موسى الكليم على أرضها لن يخذلها أبدًا.
جريدة الأهرام
https://gate.ahram.org.eg/daily/NewsQ/839975.aspx