ذات صباح وفى أثناء وجودى مع أسرتى فى قرية الدبلوماسيين بالساحل الشمالى تلقيت اتصالاً هاتفيًا كريمًا من الدكتور أحمد محمد حسنين هيكل يدعونى إلى لقاء بمنزله بحضور السيدة الفاضلة والدته هدايت تيمور وشقيقيه وفى وجود الدكتور نبيل العربى زوج خالته ووالد زوجته، ذهبت إلى اللقاء واستمعت إلى ذلك العرض الكريم والمبادرة السخية من خلال قرار العائلة بإيداع كتب الأستاذ ومافى حوزته من وثائق تاريخية ومؤلفات نادرة للآخرين وخرائط ذات قيمة عالية مع بعض مقتنياته الشخصية بما فى ذلك المكتب الذى كان يكتب عليه والمقعد الذى كان يجلس فيه مع مجموعة نادرة من الصور التى جمعته بزعامات العالم وقياداته خصوصًا أن اسم محمد حسنين هيكل _كما يعرف الجميع _ هو اسم كبير ملأ الدنيا وشغل الناس، ربطته صداقات قوية بعدد من الملوك والرؤساء فى الشرق الأوسط وخارجه، فهو الذى غطى الانتخابات الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية وتابع الحرب الكورية وعايش فصول الأزمة الإيرانية، التى كتب عنها كتابه الشهير (إيران فوق بركان)، كما أنه التقى شخصيات خلافية مثل الإمام الخمينى والشيخ حسن نصر الله فضلاً عن علاقته المتأرجحة بمعظم دول الخليج ولقاءاته المنتظمة بالملك الحسين بن طلال والحسن الثانى عاهل المغرب الراحل، بالإضافة إلى الرؤساء والقادة من زعماء الشرق الأقصى فى أثناء رحلته الآسيوية الشهيرة التى رافقه فيها المفكر المصرى والدبلوماسى السابق جميل مطر بعد ترك هيكل للأهرام فى عهد الرئيس الراحل السادات، كما أنه رافق الرئيس الروسى خروشوف فى رحلته من بلاده إلى مصر للقاء الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، كما كان أول من تحدث مع القذافى ورفاقه بعد ثورتهم على النظام الملكى فى ليبيا، وكذلك كان هو القوة المؤثرة فى المباحثات الثلاثية حول دولة الوحدة من وراء ستار، ولا عجب فقد اصطفاه عبد الناصر عندما اكتشف أنه أمام منجم هائل من المعارف السياسية والصلات الدولية حتى أصبح شريكًا معترفًا به فى عملية صنع القرار فى مصر، بل إننى أزعم أنه كان معروفًا أيضًا قبل الثورة بحكم صلته بكبار الكتاب مثل التابعى والأخوين على ومصطفى أمين، كما كان قريبًا من معظم الشخصيات السياسية قبل 1952 ونتذكر من بينهم نجيب الهلالى باشا وبعض الساسة المستقلين الذين خرجوا عن عباءة الأحزاب فى الفترة الليبرالية من تاريخ العصر الملكى فى مصر، وأتذكر عندما كنت دبلوماسيًا صغيرًا فى لندن أن تصادف احتفال السفارة الجزائرية بالعيد الوطنى فى ظل سفيرها القدير بلندن حينذاك الأخضر الإبراهيمى وتسربت أخبار عن وجود الأستاذ هيكل فى العاصمة البريطانية ودعوته لحضور الاحتفال الذى تقيمه سفارة الجزائر بعيدها القومى، ويومها تقاطر أعضاء الحكومة البريطانية وأباطرة الصحافة فى عاصمة الضباب سعيًا للقاء الأستاذ هيكل أو حتى مصافحته وتبادل كلمات قليلة معه! فلقد طبقت شهرته الآفاق وأصبح واحدًا من أهم خمسة كتاب فى العالم حينذاك. وفى ظنى أن هيكل كان هو الجواهرجى المتمكن الذى صاغ وثائق الدولة المصرية منذ قيام ثورة يوليو وحتى بداية الجفوة بينه وبين الرئيس الراحل أنور السادات، فكان هيكل هو الذى كتب فلسفة الثورة والميثاق الوطنى وبيان 30 مارس ونعى الرئيس الراحل عبد الناصر كما كتب صيغة أمر القتال للجيش المصرى فى حرب أكتوبر 1973 وغير ذلك كله من وثائق وكتابات ومقالات كان لها أكبر تأثير على المسرح السياسى المصرى لعشرات السنين، وقد جمعتنى به صلة طويلة جعلتنى أستمع إليه وأتعلم منه حتى يفتح أمامى آفاقًا واسعة للخيال الممتد الذى ينقب فى الأحداث ويقلب فى الأخبار ويخرج بالتحليل الصحيح فى إطار الروح القومية وحدود الوطنية المصرية، وقد كنت حريصًا على زيارته طوال فترة حكم الرئيس الراحل مبارك رغم أننى كنت أعمل فى مؤسسة الرئاسة ولم تكن الكيمياء البشرية منسجمة بين الرئيس والأستاذ، ومع ذلك لم أتوقف عن زيارته بعلم الرئيس الذى سمح لى بذلك دائمًا، وقد كان هيكل برغم شواغله وأعماله ونشاطه الدائم ودودًا فى كل المناسبات الاجتماعية فقد حضر زفاف ابنتى الاثنتين وعزانى أنا وزوجتى فى صهرى ووالديّ، وفى صباح الرابع عشر من نوفمبر 2014 دق جرس التليفون النقال فإذا بصوت الأستاذ يقول (هل من المعقول أنك بلغت اليوم السبعين عامًا؟! إن الذى يتابع نشاطك فى الحياة العامة يظنك فى الخمسين، والذى يقرأ لك وعنك يحسبك فى التسعين!) وكانت هذه أجمل تهنئة تلقيتها فى حياتى بمناسبة عيد ميلادي. وفى عام 2016 رحل الأستاذ وفقدت الدوائر السياسية والدبلوماسية والإعلامية نجمًا متفردًا اختفى كما تذهب الشهب والنيازك لشخصية لا تتكرر أبدًا، وحزن عليه كل قرائه وتلاميذه ومريديه فى أنحاء العالم، وأتاحت لى الظروف أن أكون فى مسجد الحسين رضى الله عنه بالقاهرة لصلاة الجنازة على الجثمان المسجى أمامنا مؤرخًا لحقبةٍ مهمة ترحل من عالمنا، ويومها طلب الحاضرون منى أن ألقى كلمة فى وداعه، كما طلبوا من الدكتور عبد الله النجار العالم الأزهرى المرموق أن يلقى كلمة هو الآخر وتحدثنا وأبصارنا تتجه إلى جثمان الراحل وأسرته الذين كانوا يجلسون بيننا فى وداع الأب العظيم، ويومها أغلق الملف وبدأت رحلتنا مع ذكريات هيكل وتراثه الثقافى الذى تحتضنه اليوم مكتبة الإسكندرية على شاطئ البحر المتوسط.
جريدة الأهرام
https://gate.ahram.org.eg/daily/NewsQ/842540.aspx