كلما تقدم بنا العمر ألحت علينا ذكريات الماضى وطاردتنا أحداثه وصداقاته وأزماته، وقد تمتعت شخصيًا بحياة جامعية ثرية بين المناسبات الوطنية والأحداث السياسية والزمالة الدراسية فى عصرٍ لم تطرح فيه جديًا قضية الديمقراطية، فقد كان هناك حاكم يتمتع بشعبيةٍ كاسحةٍ ولا يرى مبررًا لتطبيق قواعد الديمقراطية الغربية، وكانت الكاريزما التى يتمتع بها طاغية الحضور، شديدة التأثير، وكان أكثر من 95 بالمائة من المصريين والعرب ناصريين حتى وقعت نكسة عام 1967 وبدا المشهد مختلفًا، فتغيرت الرؤى وتبدلت بعض المشاعر، وكان لى رفاق أسعد بصحبتهم فى مرحلتى الجامعية، فى مقدمتهم أستاذ أساتذة علم السياسة الدكتور على الدين هلال العميد، والوزير بعد ذلك، والراحل الأستاذ طه خليل، الذى كان أول رئيس لاتحاد طلاب كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، وكنت تاليًا له فى هذا الموقع مباشرة، وكان وكيلًا للمخابرات العامة فى آخر سنوات خدمته التى قضى فترة منها فى العاصمة الأمريكية، ثم كان هناك ثنائى مرموق هو الأستاذ الدكتور أحمد يوسف أحمد، الذى أسميه دائمًا أيقونة كلية الاقتصاد، وزميله المعروف بآرائه المتفردة الدكتور أسامة الغزالى حرب، إلى جانب زملاء آخرين مثل الدكتور عثمان محمد عثمان، الذى أصبح وزيرًا، وكلهم باستثناء على الدين هلال وطه خليل أحدث منى فى سنوات الدراسة، تنضم إليهم زميلة فاضلة هى الأستاذة منى ذو الفقار التى غيرت المسار وتحولت إلى المحاماة وأبلت فيها بلاءً حسنًا، وفى نمطٍ موازٍ لهذه المجموعات كانت هناك نماذج مبهرة، أتذكر منهم السفير محمد عاصم إبراهيم بدماثة خلقه وحصافته الشديدة، والسفير محمد عز الدين عبدالمنعم بثقافته الواسعة وعلمه الغزير، وهما من دفعتى مباشرةً التى كانت هى أيضًا دفعة الأستاذة الدكتورة هدى جمال عبدالناصر، وكان الجو أليفًا والنشاط دؤوبًا على المستويين الاجتماعى والثقافى، بينما كان لنا جناح رياضى يقوده السفير مخلص قطب الذى كان أمينًا عامًا للمجلس القومى لحقوق الإنسان. وكان فى الكلية فى ذلك الوقت شخصيات بارزة، بدءًا من الدكتورة الوزيرة مشيرة خطاب، رئيس المجلس القومى لحقوق الإنسان حاليًا، مرورًا بالأستاذ ممدوح عباس الذى كان يقف وراء عديد من الأنشطة الجامعية، وهو الذى ترأس نادى الزمالك فيما بعد، إلى جانب بعض العلاقات الجامعية الرائعة مع أساتذة من نمط فتح الله الخطيب وعبدالملك عودة، فضلًا عن الأساتذة الكبار مثل الدكاترة زكى شافعى، عميد الكلية، والدكتور رفعت المحجوب، والدكتور بطرس غالى، والدكتور إبراهيم صقر، والدكتور على عبدالقادر، وكانت هناك نجوم لامعة أكاديميًا تمثل بعضهم فى طلابٍ نابهين من أمثال نادر فرجانى وجودة عبدالخالق الذى حمل حقيبة التموين بعد ثورة يناير 2011، وقد برزت بعد ذلك أسماء أثرت فى الحياة الفكرية العامة، أذكر منها بكل تقدير الدكتور عبدالمنعم سعيد الذى تميزت أفكاره بقدرٍ كبيرٍ من الموضوعية والتخلص مبكرًا من تأثير الدعايات السياسية الداخلية فى ذلك الوقت، بحيث أصبح قادرًا على رؤية دور المنطقة عالميًا بشكل يجعله متميزًا ومتألقًا، لقد كانت تلك هى سنوات التكوين الحقيقى لى ولزملائى، عشنا فيها حلاوة الانتصار، وذقنا أيضًا مرارة الانكسار، وأدركنا أن حكم مصر ليس خيارًا سهلًا أو نزهةً يقطعها المرء غدوًا ورواحًا، واكتشفنا أن ما فى الكتب ليس بالضرورة ما نشهده على أرض الواقع، وأن للحدث الواحد مائة تفسير وتفسير، نعم لقد نمت مشاعرنا القومية وتنامت مداركنا السياسية ولكن شيئًا ما كان يقف فى حلوقنا، خصوصًا عندما يعايرنا بعض زملائنا العرب بأنه لا يوجد فى مصر إلا حزبان سياسيان فقط، هما الأهلى والزمالك!، ولكننا كنّا ندرك فى أعماقنا أن رصيد الشعب العظيم الذى ننتمى إليه يجعله يمتلك جوهرًا رصينًا لا يلمع بريقه إلا فى المحن، ولا يسطع نوره إلا أمام الشدائد، فمنه خير أجناد الأرض وإليه يعود الفضل فى إيقاد شعلة التنوير فى المنطقة العربية والإفريقية، فضلًا عن أنه المأوى الكبير لطالبى الملاذ وراغبى اللجوء، والذين نذكر منهم اللاجئ الأول السيد المسيح عليه السلام الذى سعت به أمه مريم التى اصطفاها الله على نساء العالمين فى رحلة امتدت بضع سنوات على أرض مصر من سيناء إلى الدلتا إلى الصعيد.
جريدة المصري اليوم:
https://www.almasryalyoum.com/news/details/2521799