كنت أشعر بالدهشة من تصريحات الرئيس الإيرانى الأسبق أحمدى نجاد عندما يستفيض فى حماس بمعلومات تاريخية تدور حول رفض الهولوكوست وإنكار المحرقة التى تعد واحدة من جرائم النازى فى وقتها عندما قام بها هتلر ضد اليهود بدعوى مسئوليتهم عن هزيمة ألمانيا فى الحرب العالمية الثانية، وقد كان الأمر بالنسبة لى غريبًا فهل من الحصافة أن نتحدث عن إنكار المحرقة ضد اليهود فى محاولة الدفاع عن القضية الفلسطينية وحقوق ذلك الشعب المناضل الذى تعرض لأكثر من محرقة فى فترات مختلفة من العدوان الإسرائيلى على أرضه وشعبه، وكنت أشاهد فى دهشة أيضًا أن جوقة كبيرة من الكتاب العرب والمسلمين يتحمسون لآراء نجاد ويرون فيها تعزيزًا للحقوق الفلسطينية التى طال اغتصابها على مر العقود الأخيرة، وفى ظنى أن إنكار المحرقة من جانبنا نحن المدافعين عن القضية الفلسطينية هو محاولة لوضع الجرس فى رقبة قط لا علاقة له بالجريمة، إذ أن إنكارنا يبدو وكأننا كنّا شركاء فيها بينما الأمر هو أننا ضحايا مباشرون لها، فالذين خنقتهم أفران الغاز النازية قد دفعت اليهود فى العالم إلى التنفيس عن تلك الجريمة التى ارتكبت ضدهم بجرائم أخرى ضد شعبٍ لا ذنب له لكى يحصد فى النهاية مرارة واحدة من الجرائم النازية، وكان الأحرى بنا ألا ننكر المحرقة والثابت منها تاريخيًا بل نستغل حدوثها فى التشهير بالجرائم العنصرية والعدوانية التى يجرى ارتكابها فى عصرنا الحالى بهدم البيوت على رؤوس الأطفال الفلسطينيين، والمذابح الشهيرة فى دير ياسين والطنطورة وقتلى المسجد الأقصى وغيرهم من شهداء القضية، بل إن تعاطفنا مع اليهود فى مآسى الحرب العالمية الثانية هو أمر يحسب لنا ولقضيتنا ولا يحسب علينا ولا ينتقص منّا، وقد حضرت لقاءً منذ أسابيع مع وفدٍ أمريكى يجوب عددًا من الدول متحدثًا عن مأساة هذه المحرقة وأبديت أسفى لحدوثها وتعاطفت مع ضحاياها ولكننى طالبت بإدانة من يقومون بتوظيفها لمزيد من القهر والعدوان على الشعب الفلسطينى المناضل، ومازلت أطالب بأن يكون درس المحرقة هو دعوة إلى يهود العالم ليقوموا بالضغط على إسرائيل لإنصاف الشعب الفلسطينى وإعطائه حقوقه المشروعة والتوقف عن ترويع الآمنين والتنكيل بالمناضلين من أجل الحرية واستعادة الأرض، وفى ظنى أن نظرة أحمدى نجاد كانت قصيرة غير قادرة على إدارة معركة سياسية إعلامية دولية تؤدى إلى نتائج إيجابية تعود على القضية الفلسطينية بما يحقق أهدافها ويصل بها إلى كل مكان فى عالمنا المعاصر، بل على العكس رآه الكثيرون مغردًا خارج السرب كالدبة التى تقتل صاحبها بإلقاء حجرٍ على وجهه لتقتل ذبابة مرت فوقه! فالجريمة ليست جريمتنا ورغم ذلك دفعنا فاتورة غالية لها واستخدمتها إسرائيل وحلفاؤها استخدامًا بغير حدود كما لو كنّا نحن الذين أحرقنا اليهود وأدرنا أفران الغاز على أجسادهم، وقد كنّا نتوقع أن يكون ذلك درسًا إنسانيًا عميقًا للبشرية كلها للتوقف عن جرائم التعذيب والإبادة الجماعية وسياسة العقوبات الشاملة، ولكن العكس هو الذى حدث ودفعت الأمة العربية ثمنًا غاليًا وراء قضيتها الأولى القضية الفلسطينية العادلة، ولنا هنا ملاحظات ثلاث:
الأولى: لابد من إعادة النظر فى أساليب تفكيرنا وطرائق حواراتنا ودروبها بشكل عام، فيجب علينا أن نقوم بعملية واعية لاختيار العناصر الأساسية للقضايا التى نمضى نحو تحقيقها، فالاعتراف بالمحرقة قد يحسب لنا كما يمكن توظيفه لإشعار الخصم بأن الخلاص من جريمة جرى ارتكابها لا يكون بإعادة ممارستها ضد شعبٍ آخر، فالبشرية واحدة وأهدافها مشتركة ومن العبث تحويل جريمة نازية إلى جريمة كبرى على شعوب لاتستحق ذلك بكل المعانى الإنسانية والدفوع التاريخية.
الثانية: إن العقلية الغربية حين تقرأ عن مسئول إيرانى كبير أو عربى أو مسلم محاولة مستميتة لإنكار المحرقة فإن ذلك يثير لديهم السخرية ولا يعتبر دفاعًا عن القضية الفلسطينية ولكنه فقط إنكار للمسألة اليهودية فى أوروبا فى أثناء الحرب العالمية الثانية، علمًا بأن دولاً عربية وإسلامية قد تعاطفت مع اليهود فى وقتها ودافعت عن جالياتهم لديها، ولعل النموذج المغربى هو الأوضح فى هذا السياق، لذلك فإننى أدعو مخلصًا إلى التفكير السليم والتمحيص الجاد قبل الاندفاع فى تبنى قضايا خاسرة أمام غاياتٍ نبيلة وأهداف عظيمة ترفع المعاناة عن الشعب الفلسطينى وتنهى الأوجاع التى يتعرض لها.
الثالثة: إننا هنا فى مصر نمثل المطبخ العقلى للقضية الفلسطينية ولذلك فإننا يجب أن نقوم بعملية اختيار انتقائى للخطوط العريضة والأفكار الكبيرة المتصلة بتلك القضية، فليس دورنا أن نردد كل ماهو مطروح دفاعًا عن قضايانا حتى لو جاء بحسن نية ولكنه لا يخدم الرسالة التى نريد أن نبعث بها إلى الآخر فى الظروف الدولية المعاصرة، ويجب أن نفرق بين معاناة الآخر ومعاناتنا وأن ندرك بالتالى أن إنكار المحرقة ضد اليهود لن يعنى دعمًا للقضية الفلسطينية بل قد يكون مبررًا لحالة من سوء الفهم وغياب الرؤية وضياع الحقيقة.
.. إن علينا أن نقوم بعملية ترشيدٍ للعقل العربى والإعلام الذى يصدر عنه فى كل المناسبات وبكل الأساليب لأننا نريد عالمًا يسعد فيه الجميع بغير استثناء.
جريدة الأهرام
https://gate.ahram.org.eg/daily/NewsQ/843336.aspx