عندما وصلتُ إلى لندن فى سبتمبر عام 1971، وبعد الانبهار بأسلوب الحياة ونمط المعيشة والقيمة المُتزايدة للفرد، سيطر علىَّ بشدَّة هاجسٌ، هو ضرورة استكمال دراستى العُليا، خصوصًا أننى كنت قد سجَّلتُ فى كلية الاقتصاد بجامعة القاهرة رسالة ماجستير مع أستاذى الرَّاحل د.إبراهيم صقر، وبالفعل استمعتُ إلى نصائح بعض أصحاب العلم والمعرفة بالجامعات البريطانيَّة وكيفيَّة الالتحاق بها، وكان عونى فى ذلك الأستاذ الراحل د.رءوف كحيل، وهو مصرى الأصل كان له نفوذٌ أكاديمىٌّ كبيرٌ فى جامعة أكسفورد، وكذلك المُثقف الرَّاحل تحسين بشير، المُستشار الإعلامى لرئيس الجمهورية، فضلاً عن الدكتور سمير رضوان، الذى كان مُعيدًا فى كلية الاقتصاد وأنا فى السَّنة النِّهائيَّة، وبالفعل حصلتُ على توصية مكتوبة بناء على طلب الجامعة، وذلك من أستاذى الدكتور بطرس بطرس غالى، والدكتور عبدالملك عوده.
ذهبتُ إلى الكلية لأُسلِّم هذه الأوراق، وخطر لى بسذاجة القَرَوى الذى يهبط المدينة قادمًا من العالم الثَّالث أن أُقدِّم هديَّةً لسكرتيرة رئيس القسم الذى سوف أدرس فيه، ونصحنى البعض بأن أُقدِّم لها قلمًا من ماركة مشهورة، مع زجاجة من مشروب يُفضِّله أهل تلك البلاد، وبالفعل عقدتُ العَزْم، وأخذتُ الهديَّة ملفوفةً فى ورقةٍ مناسبةٍ، وذهبتُ إلى «مسز سميث» المعنيَّة بشئون الطَّلاب، وما إن قدَّمتُ لها الهديَّة حتى اِصفَرَّ وجهها وظهر عليها الغضب، وقالت: ما المناسبة؟ هل نحن فى احتفالات الكريسماس؟! إن تقديم مثل هذه الأشياء فى غير توقيتها هو نوعٌ من الرِّشوة التى لا أقبلها، وأشارت إلىَّ أن أحمل ما جئتُ به مرة أخرى، وشعرتُ وقتها بإهانة واستغراب، ولم أكن أفهم لماذا يقبلون أحيانًا بعض الهدايا ويرفضون البعض الآخر؟! وهنا أدركتُ أن المعيار هو التَّوقيت، فعندما تُقدِّم ما يشبه رشوةً علنيَّةً فى عيد الميلاد وأوقات الكريسماس فذلك أمرٌ مشروعٌ ومقبولٌ، أما تقديم الهديَّة نفسها فى غير توقيتها فتلك هى الخطيئة بعينها، ويومها أدركتُ أن الإنجليز هم الذين علَّمونا البيروقراطيَّة المُعقَّدة والرِّشوة المُقنَّعة بل والوساطة المؤثرة، وعندئذٍ بدأت أراجع الكثير من المشاهد فى هذا السِّياق، فوجدتُ أن بعض التَّصرفات إنما ترتبط صلاحياتها بأوقاتأدائها، فما هو مقبول فى فترة الأعياد مرفوض فى غيرها، كما أن ما هو مُستحب فى بعض المواقف مَمجوجٌ فى غيرها، وأستطيع أن أُذكِّر القارئ هنا بالأمثلة الثَّلاثة الآتية:
أولاً: إن «الرِّشوة» فى المفهوم العام لظاهرة الفساد يراها الغربيون أحيانًا تصرفًا طبيعيًّا فى المُناسبات المُرتبطة بها، ومعيار التَّفرقة هنا يقوم على حَصَافة الشَّخص وقدرته على فهم الأمور والتَّمييز بين ما هو مقبول وما هو مُستفِّز، شريطة أن تكون قيمة الهديَّة غير مُبالغ فيها؛ لأن هناك حدودًا لذلك تخرج بها تلقائيًّا من حيز الهديَّة إلى بند الرِّشوة، حتى ولو جاءت فى التَّوقيت الصَّحيح، لذلك فإننى أظن أن جزءًا ممَّا نعانيه فى مصر من شيوع قضايا الرِّشوة إنما هو واحد من رواسب العقل الغربى الذى نقلنا عنه بشكلٍ ممسوخٍ ولم ندرك قيمة ما نفعل.
ثانيًا: «الوساطة» وهى أمر شديد الانتشار فى بلادنا، وأنا شخصيًّا أتلقى يوميًّا عدَّة مُكالمات من طالبى الوساطة للتَّعيين أو التَّرقية أو حل مشكلة مُعينة، وقد اكتشفتُ أن أصحاب الحاجات لم يُجرِّبوا المرور بها خلال الطَّريق الطَّبيعى واستسهلوا اللجوء مباشرةً إلى استخدام الوساطة، وفى ظنِّهم أنها أسهل وأسرع، ذلك أنهم قد فقدوا الثِّقة تمامًا فى المسار الطَّبيعى للأشياء وظنُّوا دائمًا أنه لا شىء يمكن تحقيقه إلا بالوساطة، وأنه لا تُوجد مشكلة يمكن تسويتها إلا بتدخُّل أصحاب النُّفوذ من وجهة نظرهم، والطَّريف فى الأمر أن البريطانيين يُسجِّلون ذلك مباشرةً فى طلب الوظائف وغيرها من الأمور المُتصلة بقرار جديد، ولكن تحت مُسمَّى آخر هو (المرجع Reference)، لأنهم يريدون أن يعرفوا أهم مَنْ تعرف أنت، وكيفيَّة الاعتماد على رأى موثوق فيه تجاه الشَّخص المُتقدم للوظيفة مثلاً، وهم لا يجدون غضاضةً فى السُّؤال مباشرةً لأنهم يعتبرون ذلك جزءًا لا يتجزَّأ من طبيعة دورة العمل الصَّحيحة، وإمكانيَّة خلق الثِّقة فى القادم الجديد، وبذلك حلَّت كلمة المرجعيات بديلاً لكلمة رموز الوساطة وشخوصها وفقًا للزمان والمكان.
ثالثًا: إن أسلوب إزجاء التَّحية أو التَّرحيب بضيف إنما تتسق هى الأخرى مع طبيعة القطاع القادم منه، وأتذكَّر أننى مددتُ يدى يومًا لمُصافحة زميل بريطانى فى العمل فأبدى دهشته، وقال: هل هذا هو يوم الكريسماس أم أنك من أصول أيرلنديَّة؟! فهم يسخرون من أمور تبدو عادية بل وواجبة فى ثقافتنا، ولكنها تبدو غريبةً ومهجورةً فى ثقافتهم.
إن هدفى من السُّطور السَّابقة أن يدرك معى القارئ أن الحياة ليست حقيقة ولكنها طريقة، كما أن الأمور تتغيَّر وفقًا لتطوُّر الزَّمان واختلاف المكان فضلاً عن نوعيَّة الإنسان، وتلك أمور أدركناها مُبكرًا وعرفنا قيمتها على مَرِّ العصور!
د. مصطفي الفقي;
مجلة 7 أيام العدد 275
تاريخ النشر: 24 ابريل 2018
رابط المقال: https://www.7-ayam.com/%d8%a7%d9%84%d9%81%d8%b1%d9%82-%d8%a8%d9%8a%d9%86-%d8%a7%d9%84%d8%b1%d9%91%d9%90%d8%b4%d9%92%d9%88%d8%a9-%d9%88%d8%a7%d9%84%d9%87%d8%af%d9%8a%d9%91%d9%8e%d8%a9-%d9%81%d9%89-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d9%82/