الإعلام هو قضية العصر، فالذين قالوا من قبل (لكل زمان آية وآية هذا الزمان الصحافة) لم يكونوا مبالغين، فالرسالة الإعلامية في النهاية هي التي تتشكل بها صورة من أرسلها، وهي التي تحدد قيمته لدى من تلقاها، والإعلام والديبلوماسية وجهان لعملة واحدة هي «السياسة الخارجية» وصورة الدولة في المجتمعين الدولي والإقليمي، وما زالت الرسالة الإعلامية العربية دون المستوى برغم كل الجهود المبذولة للارتقاء بها خارجياً وداخلياً، فما زالت رسالة دفاعية تبريرية لم تدخل مرحلة اقتحام الغير وطرح المبادرات التي تجعل الطرف الآخر في موقف دفاعي بديل، إضافة إلى اللهجة المتهافتة أحياناً بل والاعتذارية أحياناً أخرى. إن مضمون الرسالة الإعلامية يجب أن يكون من القوة بحيث يضع الخصوم والأصدقاء على السواء في موضع الشعور بالاحترام لمصدر الرسالة والهيبة للدولة التي خرجت منها، ولا بد أن نعترف أن الكوادر الشابة والمتعلمة تعليماً حديثاً والمدربة تدريباً عملياً من الجيل الجديد في جماعة «الإخوان المسلمين» وتنظيمها العالمي تمكنت إلى حدٍ كبير من الإمساك بزمام الأمور في عدد من العواصم الأجنبية وكأننا أمام المقولة الشهيرة (إن القضية ضعيفة ولكن المحامي ناجح) بينما نملك نحن القضية العادلة ولكن ليس لدينا المحامي القدير! ولا يتصور أحد أن الرسالة الإعلامية هي سطور «لقيطة» ليس لها أب شرعي بل هي في المقام الأول تعبير عن واقع قائم، لذلك لا يتوهم أحد أن الفعل الداخلي يمكن أن يكون متراجعاً فتصدر عنه رسالة إعلامية قوية والعكس بالعكس، فالارتباط بين الرسالة الإعلامية والوقائع على الأرض ارتباط موضوعي مثل الارتباط بين المطبخ وحجرة الطعام، إذ أن ما يقدم على المائدة هو نتاج لعملية الطهي مهما كانت درجة اتقانه خصوصاً في عصر السماوات المفتوحة والتطور الهائل في تكنولوجيا المعلومات، إذ لا تستطيع دولة إخفاء ما يجري فيها أو حتى تجميل الأحداث إلا في حدودٍ معينة، فالكل يرصد الكل بل أقول إن الكل يتآمر على الكل! عالم يموج بتياراتٍ مختلفة ومصالح متعارضة وارتباطات متداخلة، لذلك فإن من الطبيعي أن تكون الرسالة الإعلامية واعية بكل هذه الحقائق، ولعلنا نفصل هنا ما أجملناه وذلك من خلال الملاحظات التالية:
أولاً: لقد قطعت البشرية شوطاً كبيراً في مجال ثورة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات على نحو جعل الأسرار العليا مباحة والخفايا الداخلية مكشوفة، وأصبح الحادث الواحد في أحد أركان الدنيا يجد صداه في نفس اللحظة في باقي بقاع المعمورة، ولقد ترتب على ذلك أن تمتعت الرسالة الإعلامية بميزات لم تتوافر لغيرها من السلع الفكرية أو النتاجات الثقافية، وتلك ميزة وضرر في ذات الوقت، أما الميزة فإنها جعلت من العالم قرية كونية صغيرة ترتبط شعوبها بصلات أوثق وعلاقات أقرب، وأما الضرر فأنها أسقطت أقنعة الانظمة وأنهت عمليات التجميل المصطنعة للأحداث والمواقف والأفكار، ولكننا في النهاية أمام عالم مختلف تطير فيه المعلومة وينتشر الخبر حتى يكاد العالم أن يرى بعضه بعضاً في شفافيةٍ يستحيل التخلص منها.
ثانياً: ليس من شكٍ في أن الإعلام المعاصر هو التعبير الحقيقي عن مكانة الدولة وحجمها الإقليمي. دعونا نتذكر نموذجين الآن الأول هو عبدالناصر و «صوت العرب»، عندما استطاع أن يكرس مفهوم «القومية العربية» من خلال تلك المحطة الصاخبة على امتداد خمسينات وستينات القرن الماضي بحيث أصبحت إذاعة «صوت العرب» مسموعة من المحيط إلى الخليج إلى أن جاءت النكسة عام 1967 فضربت صدقيتها، والنموذج الثاني هو قطر وقناة «الجزيرة»، حيث استطاعت هذه القناة العربية أن تجد مكاناً على خريطة الإعلام الدولي وأن تصبح لسنوات أهم قناة فضائية في العالم العربي كله إلى أن سقطت صدقيتها هي الأخرى بدفاعها المستميت وغير المبرر والخارج عن الموضوعية عن جماعة «الإخوان المسلمين» بحيث استفزت جموع المشاهدين في العالمين العربي والإسلامي. لذلك فإننا نؤكد هنا أن العمود الفقري للإعلام هو صدقيته حيث لا يمكن ترجمة ولائه للمشاهد أو المستمع أو القارئ إلا من خلال درجة الصدق التي يحرص عليها ومن حيث انتقاء مصادره والحياد في نشر الأخبار وتحديد مساحات متكافئة لكل منها من دون تمييز أو انحياز، لأن الانحياز ينتهي في النهاية إلى مردود عكسي يصرف الناس عن المصدر الإعلامي الذي حاول أن يستخف بمن يتابعه مقروءاً أو مسموعاً أو مشاهداً!
ثالثاً: ولماذا نذهب بعيداً؟ إنني أظن إلى درجة اليقين أن القوة الإعلامية كانت هي السند التاريخي للحركة الصهيونية والتفوق الإسرائيلي في كل المجالات، خصوصاً أن الدولة العبرية برعت في اختلاق الروايات التاريخية والدفوع الدينية للترويج لحقوق مزعومة في أرض الميعاد! فضلاً عن نزعات عنصرية واضحة وميول عدوانية لا تتوقف وتطلعات توسعية لا تنتهي، وإذا نظرنا إلى مدينة نيويورك الأميركية مثلاً باعتبارها تحوي أكبر تجمع يهودي في العالم لوجدنا أنها اعتمدت على دعامتين هما الاقتصاد والإعلام، حتى أصبحت تلك المدينة الكبرى مصدراً للترويج للحركة الصهيونية وأهداف الدولة العبرية، فالإعلام الحديث هو الذي يخلق الصورة ويحدد النموذج النمطي، وذلك من أجل هدف محدد أو غاية منشودة، وقديماً قالوا (ليس المهم عدالة القضية ولكن الأهم هو كيفية الترويج لها). من هنا جاءت قوة الإعلام وأبواقه خصوصاً على الصعيدين السياسي والاقتصادي.
رابعاً: إذا كان الاقتصاد والإعلام هما ركيزتا التفوق الغربي عموماً والأميركي خصوصاً فإننا نزعم أن المظلة السياسية هي العائد المباشر للامتزاج بين هذين العنصرين، ولا نستطيع أن ننكر أن الحياة المعاصرة تقوم على درجة من التشابك والتداخل بحيث يصعب فيها تحديد الفوارق بين ما هو سياسي واقتصادي وإعلامي، إنها تبدو كالأواني المستطرقة، كل ما يصب في واحد منها يتجه أيضاً إلى العنصرين الآخرين. إننا نعتقد بحق أن الرسالة الإعلامية هي الأكثر تأثيراً لأنها تعبيرٌ عن منطوقٍ شامل يحتوي كل الأوامر الأخرى السابقة على تشكيله. إن الإعلام هو الظاهرة العصرية النهائية للصراع السياسي والحوار الإيديولوجي والتنافس الاقتصادي. إن الإعلام في الحياة العصرية مثل البشرة الجلدية في جسم الإنسان إذ تظهر عليها أعراض الصحة والمرض مهما كانت التفاعلات الداخلية والعلاجات السريعة. لذلك فإن سرعة الاستجابة الإعلامية تعكس إلى حدٍ كبير أهمية التعامل المباشر ما دامت الرسالة الإعلامية سليمة وواضحة وذات صدقية.
خامساً: يجب أن نعترف بأن الإعلام العربي قاصر لأنه يتحدث في الغالب إلى الداخل ساعياً نحو الاستهلاك المحلي من دون التفكير في المخاطبة الجادة للغير وتقديم الصورة الصحيحة عن واقعنا المعاصر واكتساب الصدقية المفتقدة واستعادة الثقة الضائعة بيننا وبين غيرنا من القوميات والشعوب، خصوصاً ذلك الغرب الذي تعود دائماً أن يرانا من منظاره الخاص وأن يفكر فينا بطريقته المنحازة. إنه الغرب الذي يأخذ ولا يعطي، إنه الغرب الذي يتهم الآخر ويتعامل معه بدونية شديدة ليس لها مبرر تاريخي إلا كل ما كان من صنعه هو! سواء آثار الظاهرة الاستعمارية أو نتائج الكشوف الجغرافية أو غيرهما من مظاهر احتكاك الغرب مع الشرق ومحاولة فرض السيطرة الأوروبية الأميركية على العالمين القديم والجديد.
هذه ملاحظات خمس حول الإعلام عموماً والعربي خصوصاً ندرك منها أنه لا مفر من التسليم بأننا متخلفون على صعيد الإعلام، وحتى لو حاولنا توظيف شركات أجنبية للقيام بتلك المهمة فإنها ليست دائماً كما نريدها ولكنها تتعامل معنا فقط كمصدر للحصول على الأموال واستنزاف الثروة، لذلك أصبحت مسؤوليتنا الأولى هي الخروج من هذا المنزلق والاتجاه نحو اقتحام المؤسسات الإعلامية الدولية سواء كانت شركات أو وكالات أنباء أو صحفاً أو إذاعات أو فضائيات بزخمٍ قوي من المبادرات البناءة والمعلومات الموثقة والأخبار الدقيقة من دون اهتزاز أو ضعف فنحن أصحاب قضية عادلة ولنا كعرب تاريخ عريق يسمح لنا بأن نسود من جديد مهما كانت المصاعب والمتاعب والتحديات!
د. مصطفي الفقي;
جريدة الحياة
تاريخ النشر: 24 فبراير 2014
رابط المقالة: http://www.alhayat.com/article/823015/شباب/الإعلام-العربي-المعاصر