يمثل الشأن المصري هماً كبيراً في إطار الشؤون العربية بل والشجون القومية، ذلك أن ما يجري على أرض الكنانة ينعكس دائماً على المنطقة العربية سلباً وإيجاباً، ويهمنا هنا أن نبحث في بعض الجوانب المرتبطة بالمستقبل المصري الذي هو جزءٌ لا يتجزأ من المستقبل العربي كله. دعنا نقلب في الأمر برمته من خلال المحاور الخمسة الآتية:
أولاً: إن يوم انتقال السلطة من رئيس سابق إلى رئيس منتخب هو يومٌ مشهود في تاريخ مصر، ربما لأنها المرة الاولى التي يجرى فيها هذا التقليد الديموقراطي في تاريخ البلاد، ولقد وقف الخلق ينظرون جميعاً كيف حدث هذا على أرض الفراعنة بعد آلاف السنين من وراثة الحكم أحياناً أو غلبة القوة أحياناً أخرى، لذلك جاء تنصيب عبدالفتاح السيسي رئيساً منتخباً للدولة المصرية بمثابة علامة فارقة بالنسبة الى البلاد والعباد معاً، وإذا كان لنا أن ننظر إلى المستقبل بروح التفاؤل فلقد قالوا قديماً (تفاءلوا بالخير تجدوه)، إذ ليس أمامنا الآن إلا أن نستشرف المستقبل ببعض التوقعات ربما يكون من أهمها إعادة التوازن في علاقات مصر الخارجية على الصعيدين الإقليمي والدولي. إن الرئيس الجديد يبدو مؤمناً بحقيقة أضحت معروفة وهي أن «التحديث» لا يعني «التغريب» بالضرورة، إذ إن هناك تجارب كبرى خارج المنظومة الغربية وتوجد تحديداً في القارة الآسيوية - مستودع الجغرافيا ومخزون التاريخ - ولعل القوميات الكبرى الثلاث في تلك القارة العجوز يمكن أن تشد الرئيس الإفريقي العربي الجديد إلى طريق يختلف عن أسلافه ضماناً للاستقلال الوطني وحرية الإرادة المصرية. إن مصر تقف في مفترق طرق، فإما أن تواصل تبعيتها الثقافية والاجتماعية للنمط الغربي وإما أن تختار طريقاً يبرز الهوية الذاتية ويدفع بالكنانة نحو آفاق العصر وفقاً لأسس التعليم الحديث والفكر المفتوح على كل التيارات من دون تخصيص أو انحياز. إنني أظن أن السيسي يجب أن يقلب بين مفاتيح المستقبل ويختار منها أكثرها استجابة للعقل المصري الذي لم يأخذ حظه في مجالات العلم والعمل والإبداع، فلا يمكن أن تظل مصر رهينة دعم الأشقاء مهما كان كرمهم ولا معونة الأصدقاء مهما ظهر قربهم، فلن تبني مصر إلا سواعد المصريين وحدهم!
ثانياً: كان مفهوم «العروبة» واسعاً وعميقاً في فكر جمال عبدالناصر، وكان مفهوم «العروبة» مرتبطاً بذاتية مصر في عصر انور السادات، بينما اختزل حسني مبارك مفهوم «العروبة» إلى علاقات طيبة مع بعض دول الخليج، وكان مفهوم «العروبة» غائباً في فكر محمد مرسي وجماعته، إلا أننا نرى أن الرئيس المنتخب عبدالفتاح السيسي سيقوم بعملية تصحيح للتوجه القومي لمصر يعيد إليها دورها الإقليمي ومكانتها الريادية، فقد وعى الرجل على امتداد العام الماضي أن بعض الدول العربية خصوصاً في منطقة الخليج وفي مقدمها السعودية والإمارات كانت هي الظهير القوي لمصر بعد 30 حزيران (يونيو) 2013، ولن ينسى المصريون رسالة خادم الحرمين الشريفين بعد ساعات قليلة على بيان 3 تموز (يوليو) في القاهرة ولا موقف وزير الخارجية السعودي في باريس والذي كان أقرب إلى الإنذار بأن تكف الدول الغربية عن التدخل في الشأن المصري، وقد أدرك الرئيس السيسي ومعه الشعب المصري أن الأمن القومي العربي مرتبط في جذوره ومتشابك في تفاصيله، لذلك فإن مفهوم «العروبة» بدأ يأخذ مساره الواقعي ليتحول إلى منظومة مشتركة يلعب فيها الأمن القومي والمصالح العليا للشعوب العربية الدور الأساس. إننا أمام متغيرات إقليمية ومؤشرات قومية يتحول فيها مفهوم «العروبة» من مجرد إطار حضاري وميراث تاريخي إلى مجموعة من المصالح الحيوية التي يلعب فيها الأمن العربي المشترك دوراً فاعلاً ومؤثراً، ولا شك في أن مفهوم «الأمن القومي العربي» يتسع في عقل الرئيس الجديد ليشمل كل الدول العربية، إلا ما غرد منها خارج السرب واختار لنفسه طريقاً مسدوداً في نهايته. إن «العروبة» بالنسبة الى مصر ليست رداءً نرتديه حين نريد ونخلعه متى نشاء... إنها قدرٌ ومصير وحياة.
ثالثاً: يراهن الكثيرون بتوقعاتهم المختلفة على التوجهات المنتظرة من الرئيس الجديد عبدالفتاح السيسي تجاه المحاور الرئيسة للسياسة الخارجية المصرية ويحسب الكثيرون مدى نجاح تلك السياسة بقدرة السيسي وإدارته الجديدة في تحديد مسار مختلف للعلاقات المصرية- الأميركية خصوصاً بعد 3 تموز (يوليو) 2013، فقد حرص السيسي طيلة عمله وزيراً للدفاع على التواصل المنتظم مع «البنتاغون» في ندية مكّنته من أن يشرح طبيعة الأوضاع الجديدة في مصر للطرف الأميركي من خلال وزارة الدفاع التي بدت متفهمة لما يجري في مصر بل ومتعاطفة معها وذلك بخلاف مؤسسات سياسية أميركية أخرى كان موقفها ولا يزال متحفظاً حول ما جرى في مصر بصورة سلبية فيها تباكٍ مصطنع على الديموقراطية الشهيدة وحقوق الإنسان الضائعة. ولعل مستشارة الأمن القومي الأميركية سوزان رايس هي نموذج للموقف الأميركي المتشدد من التطورات المصرية في العام الأخير. ولا بد من أن أعترف هنا بأن حصافة السيسي مكنته حتى الآن من إدارة علاقة القاهرة مع واشنطن بشكل مقبول على رغم حساسية الظروف وصعوبة الموقف، ويذكر أن زيارة السيسي لموسكو لم تكن تعبيراً عدائياً تجاه الولايات المتحدة، ولكنها كانت محاولة لتوسيع دائرة الحركة أمام مصر وكسر طوق العزلة التي حاول البعض فرضها على سياسات القاهرة، ولن تلعب مصر على الخيط الرفيع الذي يربط بين موسكو وواشنطن، فقد انتهى الزمن الذي كانت تستغل فيه ما تسمى دول العالم الثالث أجواء الحرب الباردة من أجل اللعب على الحبل بين القطبين الكبيرين، فلقد تغيرت الدنيا وتحول العالم ولم يعد ممكناً السماح باستغلال ذلك في العلاقات الدولية الحالية. إن علاقة السيسي بالأميركيين تحتاج إلى رصد أمين ومتابعة واعية، فقد يعطي الرجل نموذجاً مختلفاً للعلاقة المتوازنة ذات الطابع الاستراتيجي مع واشنطن.
رابعاً: ذكرت مصادر عدة أن قطاعاً من الشباب المصري لم يشارك في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، إذ إن منهم من يرى أن هناك خروجاً على مبادئ ثورة 25 يناير. وهناك آخرون يتحدثون في سذاجة عن رفضهم لحكم القوات المسلحة (العسكر على حد تعبيرهم) وفئة ثالثة تتحدث في سطحية عن «الفلول» وعودتهم إلى مراكز القوى، بينما كنت أتصور أن الموقف يجب أن يختلف تماماً، إذ إن وصول الرئيس المنتخب عبدالفتاح السيسي إلى سدة الحكم هو تجديد لشباب الدولة وإحياء لروح الوطن ودعوة صريحة للشباب لكي يلتفوا حوله وينضموا إليه. وفي كل الأحوال، فإن على الرئيس المصري الجديد وإدارته أن يبذلوا جهداً لاستدعاء الشباب لتحمل مسؤولياته في صوغ المستقبل الذي سيعيش فيه وقد لا نعيش نحن لكي نشهده، لذلك فإننا نطالب صراحة بنوع من التربية السياسية للكوادر الوطنية من كل الأحزاب لكي يكونوا قادرين على بناء مصر الحديثة من خلال إنسان مصري مختلف لا يعرف التهاون واللامبالاة ولكنه يدرك المعنى الحقيقي للانتماء والدخول إلى ساحة العصر بأدواته العلمية والفكرية والثقافية، ولعلي أظن - وليس كل الظن إثماً - أن الرئيس المنتخب سيكون قادراً على احتضان شباب بلاده من خلال المشاريع الاستثمارية والمبادرات التنموية التي تقضي على البطالة وتفتح أبواب الأمل أمام شبابٍ كان ينظر إلى المستقبل في يأسٍ وقلق وتوتر. إن الشعب المصري يستحق أفضل بكثير مما هو فيه، ولعل الأيام المقبلة تطرح أمام الأجيال الجديدة ما يعيد إليها الثقة المفقودة في النفس والإيمان الغائب بالوطن وتجعل الشعور بالانتماء دافعاً نحو الأفضل دائماً. لقد سمعت الرئيس السيسي يقول «إن الأغلب الأعم من سكان مصر هم دون الخامسة والثلاثين، لذلك يجب أن نعمل من أجلهم ونسعى الى إرضائهم».
خامساً: في خطابه الأول وهو رئيس مصر كشف الرئيس السيسي عن سياساته الداخلية والخارجية بشكل لا يحتمل التأويل وبدا في بعض فقراته حازماً عندما تحدث قاطعاً ومكرراً أنه لن تكون هناك إدارة موازية للبلاد وهو يقصد بذلك تجربة «مكتب الإرشاد» في سنة حكم الرئيس السابق محمد مرسي، كما تحدث في وضوح لا لبس فيه عن مواجهة العنف والممارسات الإرهابية والانفلات الأمني بغير هوادة أو تردد، وتطرق إلى عددٍ من المؤشرات التي تحدد مهمات المرحلة الجديدة وحمل القطاع الخاص المصري مسؤوليته الاقتصادية والاجتماعية، وعبّر بجلاء عن انحيازه الشديد الى البسطاء من أبناء الشعب وفقراء مصر وكشف عن شعوره بمعاناتهم الطويلة وظروفهم الصعبة على مر العقود والسنين، كما شدد على اهتمامه بالتعليم والصحة، وفي الوقت نفسه تعهد توفير مناخ صحي للاستثمار الأجنبي والوطني وتقديم ضمانات لتشجيعه وحمايته، وتناول الاستحقاق الثالث لخريطة الطريق مؤكداً عزمه على أن تمضي الانتخابات البرلمانية على أكمل وجه حتى يعبّر الشعب المصري عن قدرته على اختيار نوابه في نزاهة وشفافية تستكمل بها مصر خريطة الطريق بمراحلها الثلاث، ولقد عرج السيسي في خطابه مرتين، الأولى في البداية والثانية في النهاية بعبارات التكريم لشهداء مصر - للشهداء من كل التيارات والاتجاهات والطوائف والفئات بغير استثناء - وفتح صفحة جديدة لكل المصريين الراغبين في العودة إلى حظيرة الوطن، شرط ألا يكونوا قد مارسوا العنف وأن يعبّروا صراحة عن نبذه وألا يكونوا قد خضعوا لإجراءات قانونية بالإدانة أو أحكام قانونية بالعقوبة وهو بذلك يدعو المصريين جميعاً بغير استثناء إلى ساحة العمل الوطني ساعياً إلى دعم الصناعة والزراعة والاهتمام بالفلاح المصري رفيق التاريخ وحارس القيم. لقد اتسم خطاب السيسي بالرحابة والشمول وكان بحق إيذاناً ببداية مرحلة جديدة من تاريخ مصر بعد ثورتين مجيدتين.
إن الخلاصة من هذه المحاور تؤكد في مجموعها أن المستقبل المصري سيعيد الروح إلى شعبها وأشقائها بل وأصدقائها أيضاً!
د. مصطفي الفقي;
جريدة الحياة
تاريخ النشر: 16 يونيو 2014
رابط المقالة: http://www.alhayat.com/article/835942/شباب/مصر-وملامح-المستقبل