أثبت العدوان الإسرائيلي الإجرامي على غزة أن القضية الفلسطينية قد دخلت طوراً جديداً تستثمر فيه الدولة العبرية الظروف الإقليمية المواتية، ولعلنا نطرح الآن الملاحظات الآتية:
أولاً: إن القضية الفلسطينية هي قضية العالمين العربي والإسلامي وهي بؤرة الصراع في الشرق الأوسط وقلب النزاع العربي - الإسرائيلي، لذلك كان يجب أن ينأى بها أصحابها عن الصراعات العقائدية والخلافات السياسية، إذ إن صاحب القضية يجب أن يجمع حوله الأنصار والمؤيدين لا أن يكون طرفاً بينهم في نزاعات فرعية وخلافات جانبية، فحركات الاستقلال الوطني حرصت دائماً على الابتعاد عن اتخاذ مواقف حدية تجعلها طرفاً في صراع بعينه حتى لا تخسر المواقف ولا تضيع منها الفرص، ولعلنا نتذكر موقف الراحل ياسر عرفات عند غزو العراقِ الكويتَ واتخاذه موقفاً مؤيداً للرئيس صدام حسين. يومها شعرنا بأن الرجل يرتكب خطأً جسيماً في حق قضيته ولقد كان، لذلك فإننا نعبر اليوم عن دهشتنا من دخول حركة «حماس» وهي المقاومة الفلسطينية الإسلامية طرفاً حدياً في الاستقطاب القائم في المنطقة في عملية شد وجذب من جانب قطر أحياناً وتركيا أحياناً أخرى وغيرهما عند اللزوم، إضافة إلى اتخاذ موقف غير ودي من الدولة المصرية صاحبة التضحيات الكبرى تجاه القضية الفلسطينية وذلك يعكس في نظرنا تغليب قيادات «حماس» وبعض القيادات الفلسطينية الأخرى المصالح الشخصية والنظرات الضيقة والمواقف المرحلية على حساب القضية والمصالح العليا للشعب الفلسطيني، وليست هذه هي المرة الأولى ولا الثانية التي يحدث فيها ذلك فقد وقف بعض الفلسطينيين مواقف عدائية من مصر في ظل سياسات «كامب ديفيد» وهذا مفهوم ولكنهم وقفوا أيضاً من الرئيس عبدالناصر قبيل رحيله مواقف مشابهة حتى أنه أغلق أيامها «إذاعة فلسطين» (راديو العاصفة)، لذلك فإنني أتساءل لمصلحة من تكتسب القضية الفلسطينية أعداءً وهميين تصنعهم بيديها وتنسى الغايات البعيدة لنضال الشعب الفلسطيني وشهدائه الذين حصدتهم آلة الحرب الإجرامية الإسرائيلية حتى الآن.
ثانياً: هزنا جميعاً نبأ استشهاد أكثر من 20 جندياً مصرياً في ضربة إرهابية تتسم بالخسة والنذالة وكأنما جنودنا على موعد مع هذه الجرائم في الشهر المعظم مرة في سيناء، وأخرى في الوادي الجديد، في وقتٍ تحصد آلة الحرب الإسرائيلية عشرات الشهداء الفلسطينيين الأبرياء وبينهم أطفال يتساقطون، وهم يتساءلون أمام المولى عز وجل (بأي ذنب قتلت؟) فضلاً عن شهداء وضحايا كل يوم في سورية والعراق، كأنما هو قدر العرب أن يدفعوا ضريبة الدم كل يوم! سواء كان الفاعل هو إرهابٌ يرفع لافتة الدين أو إرهاب الدولة الذي تمارسه إسرائيل، ولعلي أتساءل الآن هل كان من الأفضل أن يسلك الفلسطينيون طريق المقاومة السلبية الذي اعتمده المهاتما غاندي أسلوباً لتحرير بلاده من الاحتلال البريطاني وحقق نجاحاتٍ مشهودة جعلت اسمه العظيم يقترن بمبدأ «المقاومة بلا عنف»، خصوصاً في ظل عدم التكافؤ في التسليح والتدريب بين الضحية والجلاد؟! إن القضية الفلسطينية تمر بواحدٍ من أخطر أطوارها حيث يتآمر عليها الكثيرون، بل ومنهم بعض أبنائها. إنني أتخيل أحياناً لو أن هناك غاندي فلسطينياً منذ عشرات السنين لاستطاع أن يقود بالمقاومة السلبية حركة كبرى للعرب بالأرض المحتلة وأيضاً عرب إسرائيل (عرب 1948) ونكون قد حققنا ما هو أفضل بكثير مما نحن عليه! فالانتفاضة الشعبية السلمية يمكن أن تهز أركان الدولة العبرية العنصرية العدوانية. هكذا أتخيل أحياناً مع الأخذ في الاعتبار أن إسرائيل نمط استيطاني سرطاني فريد من نوعه، وحيد في جرائمه، لا يقبل التعايش المشترك ولكنه يسعى إلى الحصول على كل شيء، الأرض والمياه وحتى الهواء، فهل كان يمكن المقاومة السلمية أن تغيّر هذا الواقع الأليم؟
ثالثاً: إن نظرة حولنا في مصر والوطن العربي كله ستكشف عن حجم الاستهداف المهول الذي تسعى قوى معينة للنيل به من الأمة العربية، بل والإسلامية أيضاً، فلقد أصبحت متابعة الأخبار اليومية عبئاً ثقيلاً على الضمير العربي، بل والعقل الإنساني. «داعش» ينفذ عمليات رجم للنساء في شمال سورية، ويقوم بعمليات تهجير قسري للمسيحيين في الموصل، ويعلن «دولة الخلافة» في إساءة بالغة للإسلام والعروبة معاً، ويسعى إلى السيطرة على العراق واختراق سورية والمرور من الأردن إلى سيناء لاستهداف «الكنانة» باعتبارها خط الدفاع الأخير عن أمتها العربية. لقد سقط الشهداء في الوادي الجديد في صحراء مصر الغربية في عملية دنيئة لقتل الضباط البواسل والجنود الفقراء الذين يعيل كل منهم أسرة تبكيه بدموع الوطن. هل تريدون أن نقول في النهاية إن كل هذا الذي يجري هو توارد أحداث وليس له دلالة أخرى؟! إنني أظن أن ما جرى في السنوات الأخيرة هو سلسلة من الأحداث الممنهجة للنيل من الأمة العربية والشعب المصري في وقتٍ واحد، وهي أيضاً محاولة أخيرة لتصفية القضية الفلسطينية وضرب المقاومة في مقتل، ولكن دعونا نعترف أن بعض فصائل المقاومة قد أعطت إسرائيل العنصرية العدوانية فرصةً لارتكاب جرائمها وتنفيذ مخططاتها وترويع الآمنين من أطفال غزة، وسيذكر التاريخ أن المنطقة العربية هي أكثر مناطق العالم تعرضاً للمخططات الإرهابية والجرائم السياسية، وأننا عانينا - بسبب الأطماع في الثروة والعلاقة بين التاريخ والجغرافيا في منطقتنا - ما لم يعرفه غيرنا، ورغم أنني لا أؤمن بالتفسير التآمري للتاريخ إلا أنني أزعم أن هناك من استغل معاناة الشعوب من بعض الأنظمة الاستبدادية لكي يدفع بالإرهاب إليها في موجات غير مسبوقة.
رابعاً: لا أظن أن أمة دفعت ثمناً لقضيةٍ عادلة مثلما دفع العرب في صراعهم مع إسرائيل من أجل القضية الفلسطينية، فلا أحد يريد أن يعترف بالواقع كما نراه حيث تجرى عملية التطويق الإرهابي والاستخدام الظالم للإسلام والخلافة والحكم الشرعي مبرراً لارتكاب جرائم يومية والدفع بالقضية الفلسطينية إلى مأزقٍ حقيقي يكاد يطيح ثمارَ النضال الطويل والكفاح المسلح، فتارة يزرعون الخلافات الفلسطينية - الفلسطينية وتارة أخرى يصدرون تأثير الخلافات العربية إلى القضية وتارة ثالثة يدقون إسفيناً بين مصر وحركة «حماس» في محاولة لتشويه دور القاهرة التاريخي تجاه القضية الكبرى. إننا نظن أن ما جرى ويجري على الساحة العربية عموماً والفلسطينية خصوصاً هو محاولة لوضع نهاية للكفاح من أجل تحرير الأرض وإقامة الدولة الفلسطينية وعملية التفافٍ خبيثة على «حل الدولتين» واستثمار الأوضاع المتردية في الشرق الأوسط لخدمة أهداف الدولة العبرية وسياسات إسرائيل التوسعية، لذلك فإننا ندرك أن القضية الفلسطينية قد دخلت في مأزقٍ حقيقي، فهي تواجه إسرائيل بمخططاتها من دون أن يكون لها ظهيرٌ عربي قوي، ولقد انعكست الخلافات العربية - العربية على ما يجري في المواجهة بين إسرائيل و «حماس» وحاول بعض الفلسطينيين اختزال المقاومة الفلسطينية في حركة المقاومة الإسلامية وحدها بينما سعى آخرون إلى خلق نوعٍ من التنافس الأحمق مع دور القاهرة دولة الجوار العربية الكبرى لفلسطين، وتصدرت الأجندات الخارجية المشهد برمته وجرت محاولات لإقحام اللاعب التركي بديلاً لدور مصر، بينما «تركيا الحديثة» هي حليفٌ تاريخي وشريك استراتيجي لدولة إسرائيل! وكأننا (نعطي «القط» مفتاح الكرار) كما يقولون في العامية المصرية، ولا يمكن أن نتصور أن تركيا «دولة الأطلسي» يمكن أن تتحول بين يوم وليلة إلى نصيرٍ حقيقي للحقوق الفلسطينية حتى ولو رفع أردوغان رايات الإسلام صباح مساء.
إن المأزق الذي تمر به القضية الأولى للعالمين العربي والإسلامي يدعونا إلى مراجعةٍ أمينة لأسلوب إدارة الصراع الطويل بيننا وبين إسرائيل.
د. مصطفي الفقي;
جريدة الحياة
تاريخ النشر: 28 يوليو 2014
رابط المقالة: http://www.alhayat.com/article/840130/شباب/مأزق-القضية-الفلسطينية