إن ما يدور حولنا يثير الدهشة والألم معاً فكل يوم نسمع عن جرائم مؤسفة وأحداث دامية باسم الدين الحنيف في محاولة للعودة إلى أسوأ عصور الظلام في تاريخ البشرية، ولعلنا نناقش ذلك في المحاور الآتية:
أولاً: لقد تزايدت وتيرة الاضطرابات الداخلية في دول المنطقة على نحو غير مسبوق، فالخريطة العربية توضح أن كل قطر فيه ما يكفيه من نزاعات وصراعات ضربت وحدته الوطنية وأصابت الاستقرار السياسي بضربات قوية انعكست على النشاط الاقتصادي والتجانس الاجتماعي، حيث جرى تصدير الخلافات الطائفية والاضطرابات العرقية وأصبحنا أمام مشهد عبثي في معظم دول الوطن العربي، ونحن لا نمضي مع الزعم القائل بأن ثورات الربيع العربي كانت كلها مؤامرة على الشعوب فذلك تعميمٌ خطير يسلب الملايين من الشرفاء الذين خرجوا مطالبين بالتغيير حقهم التاريخي لحساب مجموعات قفزت بين صفوف المتظاهرين بل وقامت بالسطو على الثورة ذاتها، لذلك فإننا نرى أن «الربيع العربي» كان شرارة انطلقت من أوضاع عربية فقدت جزءاً كبيراً من مصداقيتها كما غابت العدالة الاجتماعية واشتدت قبضة الاستبداد، ولكن الذي جرى بعد ذلك أنه تم توظيف مشاعر الجماهير الصادقة في اتجاهات شتى ولخدمة أغراض أخرى بلغت ذروتها بأعمال التطهير العرقي والقتل على الهوية في جريمة عصرية تقترب من مفهوم «إبادة الجنس البشري»، كما مورست ضغوط غير مسبوقة على المسيحيين في المنطقة فأحرقت الكنائس ونزحوا من القرى والمدن الصغيرة للاحتماء بإخوانهم ممن يعرفون سماحة الإسلام ويدركون تاريخ العلاقة بين أهل الكتاب في هذه المنطقة من العالم. لقد عانى من هم شركاء في الحياة والمصير من أفكار دخيلة على المنطقة وشعوبها وأصبحنا أمام مشهد حزين يؤرق كل عربي قومي بل وكل مسلم غيور على دينه الحنيف. لقد أطلت الخلافات المصطنعة بين الشيعة والسنّة أيضاً على رغم أن دينهم واحد ونبيهم واحد وقرآنهم واحد وقبلتهم واحدة! فالخلافات بينهم تاريخية وليست أساسية.
ثانياً: إن الإنسانية قطعت أشواطاً واسعة نحو الاندماج والتجانس والانصهار وخرجت من عباءة الفرز الديني منذ عقود طويلة، فسؤال الشخص عن دينه في الغرب يمثل خروجاً عن المألوف بل ويصل إلى حد التجريم أحياناً لأن المعتقد الديني هو علاقة ذات خصوصية بين المخلوق والخالق، ولذلك فإن تلك العلاقة روحية ليست موضعاً للتمييز أو الاستعراض أو المتاجرة، ولا زلت أتذكر عندما كنت ديبلوماسياً صغيراً أعمل نائباً للقنصل المصري في لندن وحررنا استمارة جديدة للحصول على تأشيرة دخول إلى مصر ووضعنا بين مفرداتها خانة الديانة للتعرف إلى اليهود القادمين إلى مصر في ذلك الوقت من بداية سبعينات القرن الماضي، وفور صدور تلك الاستمارة قامت الدنيا ولم تقعد وهددت الخارجية البريطانية بإسقاط حصانة القنصلية العامة لأنها تقوم بعملية فرز ديني كواحد من مؤشرات الدخول إلى مصر حين ذاك، واكتشفت منذ ذلك الوقت أن السؤال عن الديانة غير مقبول في المجتمعات المتحضرة كما أنه لا توجد خانة له لا في جوازات السفر ولا في بطاقات الهوية، وها نحن نعود في المنطقة العربية مئات السنين إلى الوراء لتظهر جماعة ترفع أعلامها السوداء وشعاراتها الخرقاء وتقتل على الهويَّة وتدفع عشرات الآلاف من المسيحيين العراقيين إلى النزوح عن مدنهم وقراهم طلباً للحياة وهروباً من الموت المحقق، وهذه ممارسات غريبة تلقي بظلال كئيبة على الوجه المشرق للإسلام الحنيف، كما أن المخاطر الناجمة عن ذلك تهدد استقرار المنطقة وتعرضها لاهتزازات عنيفة تتغير بها الخريطة السياسية بل والجغرافية والدينية أيضاً. لقد أصبح علينا مواجهة ما يحدث بكل قوة مؤكدين أن عملية الفرز الديني هي عملية إجرامية لا أخلاقية!
ثالثاً: ينظر البعض إلى التهجير القسري في سذاجة وبساطة على أنه مجرد عملية إبعاد لتجمع للسكان من مكان يعيشون فيه، وينسى هؤلاء وأولئك أن الالتصاق الإقليمي هو أحد المظاهر التاريخية لفكرة الوطن، إذ لا يتصور أحد أن من حق قوة ما أن تخرج البعض من دياره وأن تطرده من موطنه، والتاريخ الإسلامي يذكرنا بأن النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) عندما أخرجه أهل مكة مبعداً يحمل دعوته في قلبه ومعه نفر من تابعيه قال قولته الشهيرة وهو ينظر إلى مكة دامعاً «والله إنك أحب بلاد الله إليَّ ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت»، وعندما تم نفي أمير الشعراء إلى أسبانيا قال بيته الشهير «وطني لو شغلت بالخلد عنه... نازعتني إليه في الخلد نفسي». نقول ذلك كله وعيوننا شاخصة إلى ما جرى ويجري تجاه أشقائنا المسيحيين في العالمين العربي والإسلامي إذ أنهم «أهل ذمة» لأن لهم في ذمتنا حق الرعاية والعناية والاهتمام، ولا يمكن أبدا أن يصل بنا الأمر إلى تهجيرهم قسرياً - مثلاً - من قراهم ومدنهم في شمال العراق، فالأمر لا يتوقف عند كونه جريمة دينية ولكنه أيضاً عدوان مباشر على حقوق الإنسان المعاصر، فالديار هي السكن والوطن والاستقرار، ولا يمكن أبداً أن نفكر في الأمر على أنه مجرد إعادة انتشار سكاني أو توزيع ديموغرافي وإذا كان السبب هو الاختلاف في الدين فتلك هي الخطيئة الكبرى لأن الله خلقنا جميعاً على ذات الفطرة وكان يستطيع أن يوحد الأديان وأن يجعلنا جميعاً أمة واحدة ولكنه أراد للحياة التنميط والتعدد واختلاف المسالك. إن التهجير القسري هو ظاهرة خطيرة تتصدر أقبح الممارسات الإنسانية وأكثرها خطراً على مستقبل البشر.
رابعاً: ليس من شك في أن ما يجري على الأرض العربية حالياً هو أمرٌ ينذر بالعواقب الوخيمة كما يؤدي إلى نتائج يصعب توقعها، ولكن الأمر الذي لا جدال فيه يأتي من ضرورة الاعتراف بالواقع والتسليم بمحاولات التأثير الخارجي على ما يحدث. إن حالة الاستهداف التي يتعرض لها الوطن العربي تبدو غير مسبوقة في تاريخنا الحديث وتشير بوضوح إلى وجود تحالف شرير يسعى إلى تقويض دعائم الأمة العربية وهدم أعمدة دولها، ونتساءل هنا عن الرابح من كل ما يجري على الساحة لكي تشير أصابع الاتهام إلى الدولة التوسعية العدوانية العنصرية التي تتحدد سياسة واشنطن في الشرق الأوسط وفقاً لأهدافها ومطالب أمنها. إن طبيعة التسليح الذي يملكه تنظيم «داعش» في العراق وسورية تشير إلى ارتكاز ذلك التنظيم على منابع هائلة للتمويل ووجود مصادر للسلاح المتطور كالمدفعية الطويلة المدى وراجمات الصواريخ وهي أمور لا تتوافر إلا للجيوش النظامية في الدول فضلاً عن أرتال من الدبابات والعربات المصفحة. إن الميزة النسبية في هذه المنطقة من قلب العالم أنها تحتل موقعاً مهماً فهي على ضفاف المتوسط وغرب آسيا وشمال أفريقيا وهي ذات إطلالة مباشرة على الخليج والمحيط الهندي وساحل البحر الأحمر من بدايته حتى نهايته، لذلك أصبحت هدفاً للطامعين وغاية للمغامرين فضلاً عن أنها المنطقة التي خرجت منها الديانات الإبراهيمية الثلاث اليهودية والمسيحية والإسلام، فمن الطبيعي أن يتجذر الدين فيها وأن تتحول طقوسه إلى نمط يومي في حياة الناس، لذلك فإن الضرب على ذلك الوتر هو أمر يحرك المشاعر بحيث يمكن استخدامه في تضليل الملايين إذا شاءت قوة غاشمة أن تفعل ذلك.
خامساً: هل كان منّا من يتخيَّل أن تظهر في القرن الحادي والعشرين جماعات إرهابية تسيء إلى الدين والدنيا معاً وترتكب أبشع الجرائم وتتورط في أكثرها وحشية وظلامية، فالقتل على الهوية وتجريف المدن والقرى وعمليات الإعدام الجماعية بل والمضي إلى ما هو أبعد من ذلك بفرض الجزية التي أدت إلى نزوح عشرات الآلاف من ديارهم تحت مظلة التهجير القسري فضلاً عن ترويع الناس بعمليات رجم النساء وفرض الختان عليهن بل وبيعهن سبايا في الأسواق! وكأنما هي عودة متعمدة إلى جرائم العصور الوسطى، والغريب في الأمر أن رد الفعل الدولي لم يكن بالقوة التي كنَّا نتوقعها، بل إن الضربات الجوية الأميركية هي تكفير عن الخطيئة الأميركية الكبرى في أرض الرافدين عندما جرى حل الجيش العراقي وتوابعه من الأجهزة الأمنية بدعوى اجتثاث البعث فجاءه من جديد تحت مظلة إرهابية دموية بدلاً من أن يكون حضوره تحت مظلة وطنية تحمي البلاد والعباد! ولعلنا نتطلع أيضاً إلى المؤسسات الدينية الكبرى في العالم الإسلامي وفي مقدمها الأزهر الشريف الذي أنشأ ما أسماه «بيت العائلة» للحفاظ على الوحدة الوطنية وضرب الفتن الطائفية وقد كانت المناسبة التي أدت إلى تحرك الأزهر يومها هي عدوانٌ على كنيسة عراقية، وها هو الأمر قد امتد لكي يكون عدواناً على كل الكنائس في واحدة من أبشع جرائم العصر وأكثرها خطورة على مستقبل الإنسانية وأشدها تأثيراً في السياستين الدولية والإقليمية، فلم يعد الشرق الأوسط هو ذلك الذي كنَّا نعرفه بل إن الخريطة السياسية برمتها مرشحة لتغييرات خبيثة وخطيرة، وما لم يتنبه الغافلون فإننا سنكون أمام أكبر مأساة إنسانية عرفتها المنطقة.
إن الوقوف أمام ما يجري في حزن لا يكفي بل لا بد من مواقف واضحة لأنها قضية بقاء أو فناء لشعوب عربية تطلب الأمن، وتسعى نحو الاستقرار، وتنبذ العنف، وترفض الإرهاب.
د. مصطفي الفقي;
جريدة الحياة
تاريخ النشر: 25 أغسطس 2014
رابط المقالة: http://www.alhayat.com/article/826867/شباب/التهجير-القسري-جريمة-إبادة