حصلتُ على جائزة الدولة التشجيعية فى مطلع التسعينات، وعلى جائزة الدولة التقديرية فى بداية هذا القرن، وفى عام 2010 رشحتنى أربعُ جامعات كُبرى لـ«جائزة مبارك» (النيل) فى العلوم الاجتماعية، وكان من دواعى سرورى أن جامعتى التى تخرَّجتُ فيها، وهى «جامعة القاهرة»، كانت من الجامعات التى رشحَّتنى، ومعلوم أن جوائز الدولة ليست أكاديمية بحتة، ولا هى أيضًا جوائز تتَّصل بالمناصب، وإنما من المُفترض أنها تذهب لمن يكون إسهامه مرموقًا فى خدمة وطنه وقضاياه الفكرية والثقافية والعلمية، ولأننى عضو فى «المجلس الأعلى للثقافة» فقد خرجتُ من جلسة الاجتماع التى تُقرِّر المُستحق للجائزة، وكان من المُفترض أن أمكث فى «الصالون» خارج القاعة حتى تُعلن النتيجة، ولكنى آثرتُ -منعًا للإحراج فى حالة الفشل- أن أتَّجه مُباشرةً إلى منزلى.
وبالفعل، طلبتُ من سائقى التَّوجُّه إلى المنزل، وبعد رُبع ساعة، أو أكثر قليلاً، اتَّصل بى صديق العُمر «د.زاهى حواس» -الذى أتبادل معه المقالب والدُّعابات- وقال لى بلهجة جادَّة: Hard luck فلقد ضاعت منك الجائزة على أصواتٍ قليلةٍ، وشكرتُه، وطويتُ النَّفس على بعض الضِّيق المُؤقَّت، وما إن وصلتُ إلى منزلى حتى وجدتُ أخى وصديق عُمرى أيضًا د.على الدين هلال -عميد كلية الاقتصاد، وزير الشباب الأسبق، وأستاذ أساتذة العلوم السياسية- يصيح مُتهلِّلاً: «مبروك.. لقد انتهينا من التصويت فى هذه اللحظة، وأنت أخذت الجائزة من أوَّل جولة، وبشبه إجماع، ولم أكن مُصدِّقًا، فاتَّصلتُ بصديقى «زاهى حواس»، وقُلتُ له: لماذا أخبرتنى بذلك؟! فقال: لكى تشعر بحلاوة النَّصر بعد مرارة الهزيمة، ولقد تعوَّدتُ عبر السنين كما عوَّدته أيضًا على المقالب الظريفة والمُداعبات المستمرة، وطلب منِّى العودة إلى مقر المجلس، حيث مازال الاجتماع مُنعقدًا لأتلقى التَّهانى من أعضاء المجلس الأعلى للثقافة، ولكننى قُلتُ له إننى وصلتُ لمنزلى، وشكرتُه، وطلبتُ منه إبلاغ تقديرى وعرفانى للجميع، وآثرت البقاء مع أسرتى، وعندما تسلَّمتُ مبلغ الجائزة خصَّصتُ منه مائةً وخمسين ألف جنيه مصرى لـ«مستشفى سرطان الأطفال»، وخمسين ألف جنيه لمُسابقة سنوية باسمى لأفضل بحث فى العلاقات الدولية فى قسم العلوم السياسية بـ«كلية الاقتصاد جامعة القاهرة»، وأتذكَّر أن الشَّاعر المعروف «عبدالرحمن الأبنودى» قد حصل على نفس الجائزة فى الآداب فى نفس العام، وكنا ضيفين هو وأنا على كثير من البرامج التلفزيونية، وكان الرَّاحل «عبدالرحمن الأبنودى» يُداعبنى قائلاً: لماذا لا نعمل (دويتو)، أنت تتحدَّث فى السياسة، وأنا أُردِّد الأشعار؟ ونضحك معًا من القلب -رحمه الله- هذه قصَّتى مع أكبر جائزة فى الدولة المصرية حصلتُ عليها فى إطار واحد من أكبر مقالب «زاهى حواس»، وأكثر مواقف «على الدين هلال» محبَّةً وإيثارًا، وما أكثر المواقف التى شهدتُ فيها شيئًا من ذلك؛ لأننى من ذلك النَّوع من البشر الذى يُؤسِّس توقُّعاته على أسوأ السيناريوهات، فإذا جاء الأفضل كانت السعادة كاملةً وغامرةً، وليس معنى ذلك أننى مُفرط فى التشاؤم، بل على العكس، فأنا ممَّن يُؤمنون بالمقولة الخالدة «تفاءلوا بالخير تجدوه»، ولقد ذكَّرتنى تلك الجائزة بأوَّل جائزة كبيرة حصلتُ عليها عندما كنتُ الأوَّل على منطقة «البحيرة» التعليمية فى الشهادة الإعدادية عام 1959، كما أن حصولى ذات يوم على كأس الخطابة فى أسبوع شباب الجامعات المصرية كان له أيضًا صداه فى نفس شابٍّ فى مُقتبل العُمر، ولكن دعنى أعترف أن أكثر تلك اللحظات روعةً وجلالاً هى تلك التى حصلتُ فيها على الدكتوراه من «جامعة لندن» فى 26 أغسطس عام 1977، لقد شعرتُ يومها بأن تحوُّلاً جذريًّا قد طرأ على حياتى، وأنه أصبح من المُتعيَّن علىَّ أن أتصرَّف فى إطار المعايير الأكاديمية التى وصلتُ إليها، وتبقى مسألة جوائز الدولة فى «مصر» أمرًا يحتاج إلى مُراجعة؛ لأننا نتحكَّم أحيانًا فى منح جائزة كُبرىفى فرع مُعيَّن إلى غير المُتخصِّصين فيه، أو العارفين بخفاياه، وأحسبُ أن مُحاولاتٍ للإصلاح قد بدأت تتمُّ لتعديل إجراءات منح الجوائز، وأظنُّ أنها قد حقَّقت جزءًا لا بأس به من المطلوب، لقد ذكَّرتنى بذلك كُلِّه دُعابة الأثرى الكبير «زاهى حواس» أو (الرجل ذى القُبَّعة)، كما يُطلِق عليه الأجانب، ولذلك قصصٌ سوف أرويها فيما بعد.
د. مصطفي الفقي;
مجلة 7 أيام العدد 277
تاريخ النشر: 8 مايو 2018
رابط المقال: https://www.7-ayam.com/%D8%AC%D8%A7%D8%A6%D8%B2%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%8A%D9%84-%D9%88%D9%85%D9%8F%D9%83%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%A9-%D8%B2%D8%A7%D9%87%D9%89-%D8%AD%D9%88%D8%A7%D8%B3/