مرت العلاقة بين الإسلام والغرب بمراحل تاريخية مختلفة، فهو تارة عدو وتارة حليف وعند اللزوم خصم، فالغرب بارع دائماً في اختيار الأصدقاء وصنع الأعداء وفقاً لمصالحه وأهوائه، وتحفل الذاكرة الإسلامية بمشاهد متعددة للصعود والهبوط في منحنى العلاقة الطويلة بين الغرب والإسلام، ولعلنا نستعرض الأمر عبر المحاور الآتية:
أولاً: يصنع الغرب كل عقود عدة «فزاعة» جديدة، ولقد كانت الحرب الباردة بين طرفين يختلفان في النظام الاجتماعي والنهج السياسي والمسار الاقتصادي مبرراً لكي تطفو على السطح مجموعة من المواقف التي تدفع بالصراع إلى حافة الهاوية وتتحدث عن خطر داهم يكون قائماً أو قادماً، ولقد نجح الغرب نجاحاً باهراً في الدفع بالإسلام لكي يكون أداة في مواجهة «الخطر الشيوعي» حتى ولدت التنظيمات الإرهابية بالفعل عندما تحول المجتمع الدولي إلى شطرين كبيرين يناوئ كل منهما الآخر ويحرص على إضعافه حتى ينفرد بالأجيال الصاعدة من الذين يلبون نداء الدين والوطن ويعلنون بدايةً أن ليس لديهم خوف مما هو قادم، ولكن تبقى المرارة في الحلوق مهما طال الزمن كنتيجة طبيعية للتجاوزات التي جرت بدءاً من «ربيع براغ» 1968 ثم مقاومة الاحتلال السوفياتي السابق لدولة أفغانستان ولجوء الغرب إلى الإسلام ظهيراً قوياً ضد الزحف الشيوعي حينذاك بحيث تنادى الشباب المسلم من الأقطار كافة ساعين نحو «الجهاد» على أرض أفغانستان، وعندما تحقق الهدف وانسحبت القوات السوفياتية من أفغانستان كان الميلاد الطبيعي لتنظيم «القاعدة» بكل تداعيات ظهوره على استقرار المنطقة وسلامة شعوبها وخلق حالةٍ من الاستقطاب ضد الاتحاد السوفياتي السابق في ظل أجواء حربٍ باردة بحيث أصبح الإسلام حليفاً تقليدياً للقوى الرأسمالية المختلفة في مواجهةٍ عسكرية وسياسية ضد الزحف الشيوعي وأخطاره المحتملة، ويومها ركز الإعلام الأميركي على مفهوم «الجهاد» وكان يدفعه إلى الأمام في محاولة لتوظيف الإسلام ليكون حزاماً قوياً حول الكتلة الشيوعية في ذلك الوقت، وبذلك برع الغرب دائماً في الاستفادة من الواقع الدولي بشكل أدى في النهاية إلى إمكانية توظيف القوى الدولية كافة لخدمة أهداف الدول الكبرى.
ثانياً: لم يتوقف الغرب عن استخدام الإسلام فزاعة في مواجهة «الفكر القومي» مثلما فعل في مواجهة «الخطر الشيوعي»، فقد برع الغرب دائماً في توظيف الإسلام - بالتزييف والتخويف - فبعدما جعله حائط صد أمام الشيوعية عاد ليستخدمه منافساً للقومية ونداً لمفهوم العروبة، وعلى رغم التلازم التاريخي المعروف بين الإسلام والعروبة، إلا أن هناك من دق إسفيناً بينهما وجعل التوجهات القومية على طرفي نقيضٍ مع المبادئ الإسلامية، ولوَّح هؤلاء وأولائك بمفهوم «الأممية» في الإسلام ليجعلوا الفكر القومي توجهاً دخيلاً فيه تعصب وتغليب للشعوبية، وقد وقف الغرب مرة ثانية يحتمي بالإسلام الحنيف ليضرب الحركات القومية وفي مقدمها القومية العربية، ولقد اجتهد مفكرون كثيرون لعقد مصالحةٍ توفيقية بين الدين والقومية على اعتبار أن الإسلام والعروبة ملتصقان، إذ إن النبي محمد (عليه الصلاة والسلام) هو نبيٌ عربي كما أن القرآن قد نزل بلسان عربي مبين، ولكن الغرب حاول في مراحل تاريخية معينة تجاهل كل ذلك واستخدم الإسلام برحابته وسماحته كحائط صدٍ أمام المد القومي العربي في سنوات تألقه وتوهجه، وبذلك لم يعدم الغرب وسيلة أمكنه فيها توظيف الدين الإسلامي وتأثيره الواسع في أتباعه والمؤمنين به إلا وفعلها، فهو الدرع المنيع أمام الشيوعية وهو المنافس القوى للقومية، وهو المبرر الذي يستخدم الغرب تأثيره عند اللزوم، ولا نستطيع أن نتحدث عن حلفٍ خفي بين الإسلام والغرب، فذلك غير ممكن على المدى الطويل، ولكن الذي يحدث هو أن الغرب يستخدم المشاعر الدينية لدى العرب والمسلمين لتوظيفها في خدمة مخططاته وغاياته ولا يتورع عن ذلك في كل العصور.
ثالثاً: لقد تحملت الشعوب التي تكافح من أجل تحررها الوطني والحصول على استقلالها السياسي وفرض سيادتها على أرضها، تحملت تلك الشعوب في العقود الأخيرة إساءةً بالغة تمثلت في ذلك الخلط المتعمّد بين «الكفاح الوطني المسلح» وبين «الإرهاب الدموي الأحمق»، ولقد برعت الدولة العبرية (إسرائيل) في ذلك براعةً متواصلة بدمغها حركات المقاومة الفلسطينية بكل اتجاهاتها بأنها حركات «إرهابية» بينما هم يناضلون من أجل أرضهم المحتلة وحقوقهم السليبة، ولكن الدولة العبرية تمكنت من تشويه صورة ذلك النضال العادل ووضعت الشرفاء والمقاتلين والشهداء في مصاف القتلة والإرهابيين، وذلك توجه إسرائيلي خبيث هدفه تحميل أصحاب الحق مسؤولية ما يحدث من دون أن تعنيهم الحقوق المغتصبة أو البيوت المهدمة أو الأطفال المعذبون! ولقد برعت إسرائيل أيضاً ومن خلفها الولايات المتحدة الأميركية والغرب في الربط بين الإسلام كدين وبين الإرهاب كجريمة، فتحوَّلت الصورة الذهنية لدى المواطن الغربي العادي إلى ارتباطٍ وثيق بين تلك الديانة السماوية وبين الجرائم الإرهابية في كل مكان، فالمسلمون هم أول المتهمين في الجرائم كافة التي تحدث في أي مكان، وهم الذين يقفون في طوابير التأشيرات، والمشكوك فيهم في المطارات، والمظلومون في كل وقت، وهكذا نجد أن توظيف الغرب لاسم الإسلام ومكانته يمتد من البداية الى النهاية، فتارة يستخدمه كحائط ضد الشيوعية وتارة أخرى يعادي به القومية ومرة ثالثة يربط بينه وبين الجرائم «الإرهابية»، بل زاد الأمر على ذلك بأن جعل من الإسلام مبرراً للتفكك والانقسام فعبث في داخله وقسّم صفوفه بين شيعةٍ وسنّة من دون مبرر صحيح ومن دون سند من تاريخ الحضارة العربية الإسلامية، كما حاول التفرقة بين المسلمين وإخوتهم من أهل الكتاب.
رابعاً: يحتفظ الغرب عموماً بذاكرةٍ سلبية تجاه العالم الإسلامي، ولقد كانت هجمات 11 أيلول (سبتمبر) 2001 نقطة فارقة في المواجهة المحورية بين الغرب في جانب والعالمين العربي والإسلامي في جانبٍ آخر، فقد اكتشفت الولايات المتحدة الأميركية - ربما للمرة الأولى في تاريخها - أنه يمكن الهجوم عليها داخل اراضيها وأنه لا يوجد حائل يمنع ذلك، حيث كانت «غزوة نيويورك» كما سمّاها تنظيم «القاعدة» حينذاك بمثابة صفعة الإفاقة لدى واشنطن وحلفائها للقيام بسلسلة من العمليات العسكرية تحت مظلة مكافحة «الإرهاب»، وهو ما سمح بشدة للربط بين التطرف الإسلامي والإرهاب الدموي وأعطى بالتالي مسوغاً لاستخدامٍ جديد للإسلام هذه المرة تحت غطاء «مكافحة التطرف والعنف والإرهاب» بعدما جرى استخدام الإسلام والمسلمين ثلاث مراتٍ من قبل، كانت الأولى في مواجهة الشيوعية والثانية لضرب القومية والثالثة لتصفية الكفاح المسلح بخلطه بالمقاومة الإسلامية تحت مسمى «الإرهاب» أيضاً، وقد استخدم الغرب أدواته كافة لتوظيف الإسلام لخدمة أهدافه على مر العقود، ولقد جاءت مظلة «الحرب على الإرهاب» خصوصاً بعد الهجوم على برجي التجارة بمثابة مبرر دولي للعبث بالعالمين العربي والإسلامي، والآن يجري تطويع نتائج ثورات «الربيع العربي» أيضاً لخدمة أهدافٍ قصيرة المدى وأخرى طويلة الأجل في آن واحد، ولعل تنظيم «داعش» وأخواته هو نموذجٌ لما آلت إليه نظرة الغرب للإسلام والمسلمين عبر ذاكرةٍ قصيرة، ولكنها تستلهم من ذاكرةٍ بعيدة أخرى عبر القرون الغزوات الأوروبية للقدس في «حرب الفرنجة» المسمّاة خطأً «الحروب الصليبية»، إضافة إلى المواجهة الحضارية عند طرد المسلمين من الأندلس فضلاً عن نقاط التماس في صقلية وجزر المتوسط الأخرى.
خامساً: كنت أتحدث منذ أيام مع سفير إحدى الدول الأوروبية الكبرى في القاهرة الذي ذكر لي أن لبلاده وحدها ستمئة شاب وفتاة من مواطنيها يحاربون في صفوف تنظيم «داعش» ويحملون جنسية بلدهم الأوروبي! وعندما سألته عما إذا كان مواطنوه الذين يشاركون في أعمال القتل والذبح والرجم قد تحولوا إلى الإسلام أم أنهم على ديانتهم الأصلية؟ قال لي: ربما تظاهروا بدخول الإسلام الذي يكفي له النطق بالشهادتين بينما هم عناصر رافضة للحياة ومتعطشة للدماء مهما كانت جنسياتهم أو دياناتهم، وهذا ما يؤكد أن الإرهاب داءٌ دولي ومرضٌ عالمي ولا يحسب على الإسلام وحده، لذلك فإن من الظلم أن نقف أمام الظاهرة باعتبارها ظاهرة تتصل بالتطرف الإسلامي دون غيره. إنها ظاهرةٌ تبدو كالوباء الذي يجتاح الشباب الرافض لكل ما حوله في بلاده والذي يسعى الى إثبات وجوده بطريقةٍ مختلفة ويظن أنه بما يفعل سيغيِّر المنطقة ويقيم دولة «الخلافة الجديدة» التي يختلف بها مسار الأحداث في العالم كله من وجهة نظره. إن هذه التنظيمات الإرهابية الجديدة أصبحت عالمية الطابع أكثر منها دينية التوجه، بل إنني أظن أن ما ذكره السفير الأوروبي لي هو رقمٌ متواضع لأنه يشير إلى الأعداد الموثقة المؤكد مشاركتها من بلده بينما قد يكون هناك أضعافها من معظم البلاد الأوروبية من الذين سعوا إلى تلك المغامرة من دون إعلانٍ عن أنفسهم أو تحديد لهويتهم، وهل ننسى أن بعض العناصر التي شاركت في عمليات الذبح وقطع الرقاب هي عناصر غير عربية، بل إن أحد الضحايا كان أوروبياً دخل الإسلام منذ فترة ولم يشفع له ذلك عندما جرى ذبحه. إنها ظاهرةٌ مؤلمة لأبرز أمراض العصر... إنه الإرهاب الأسود!
ستظل العلاقة بين الإسلام والغرب ماضية صعوداً وهبوطاً تتأرجح بين الحليف والصديق والعدو، ولكن الأمر الذي لا خلاف عليه هو أن الغرب قد برع دائماً في توظيف الإسلام لخدمة أهدافه ومخططاته لإحكام السيطرة على العالمين العربي والإسلامي عبر العصور المختلفة.
د. مصطفي الفقي;
جريدة الحياة
تاريخ النشر: 1 ديسمبر 2014
رابط المقالة: http://www.alhayat.com/article/822389/شباب/توظيف-الغرب-للإسلام