تضرب العلاقات المصرية الخليجية بجذورها العميقة منذ فجر التاريخ عندما تحدث المصري العادي عن «بر مصر» و «بر الحجاز» على ضفتي البحر الأحمر، كما أن دخول الإسلام الى مصر ربطها بالجزيرة العربية برباط الدين أولاً، ثم برباط اللغة ثانياً حتى انصهرت العلاقات في بوتقة من العيش المشترك والجوار الآمن في وقتٍ لم يكن معظم دول الخليج قد تبلور في شكله الحديث، فضلاً عن أن إطلالتها على الخليج العربي والمحيط الهندي جعلتها تنظر شرقاً أكثر مما تنظر غرباً، فتوثقت علاقات بعضها بإيران كما امتدت علاقات البعض الآخر إلى الهند، وأصبح العمق الآسيوي بالنسبة إليهم هو الأكثر تأثيراً في وقتٍ لم يكن فيه قد تم اختراع الطيران، حيث كان البحر هو مطية السفر في تلك العصور. وما يعنينا هنا أن نؤكد أن حركة الطيران وانتشار جهازي المذياع والتلفزيون قد ربطا بين مصر ومنطقة الخليج على نحو غير مسبوق، ولم يقف الأمر عند تدفق المصريين في مواكب الحج إلى بيت الله الحرام، ولكن زاد على ذلك بقوافل المعلمين ثم المهندسين والأطباء الذين انتشروا في بقاع الجزيرة والخليج العربي، ولعبت القوى الناعمة المصرية دوراً في توثيق العلاقات على مر السنين، فتدفق الطلاب الخليجيون إلى المدارس، ثم الجامعات المصرية ونشط الوعي الجمعي المصري ليعطي الخليجَ قيمة خاصة بعد ظهور البترول وشيوع مظاهر الثراء في بعض أرجائه، وقد يكون من المناسب أن نطرح هنا المحاور الآتية:
أولاً: إن العلاقات المصرية الخليجية لم تكن سخاءً رخاءً ولكنها تعرضت لفتراتٍ من الشد والجذب، بل والتوتر الذي وصل إلى حد الاقتتال عندما دخل إبراهيم باشا ابن محمد إلى مدينة الدرعية أحد معاقل الوهابيين الأوائل، وكذلك عندما اصطدم الرئيس المصري جمال عبدالناصر بالحكم السعودي في الجزيرة العربية، حيث جرت المواجهة العسكرية على أرض اليمن بعد الثورة ضد حكم أسرة حميد الدين، كل ذلك يعني أن علاقات الجوار بين المصريين وأشقائهم في الخليج هي تجسيد حي لما يمكن أن يحدث بين الأشقاء، خصوصاً عندما تتعارض المصالح أحياناً.
ثانياً: اتسمت فترة حكم الرئيس السابق حسني مبارك بعلاقات متوازنة ومستقرة، بل ووثيقة مع دول الخليج، وكانت مشاركة مصر في التحالف الدولي لتحرير الكويت بعد غزوها من صدام حسين علامة بارزة لحرص مصر على أمن دول الخليج التي لم تتوانَ عن تقديم يد العون للشقيقة الكبرى في المحن والأزمات، ولعل في موقف السعودية والإمارات ومعهما البحرين والكويت من الثورة الشعبية في 30 حزيران (يونيو) 2013، ما يؤكد الإحساس المشترك بالأمن القومي الواحد، فلقد حرص الجانبان - مصر من ناحية ودول الخليج من ناحية أخرى - على وضع العلاقات بينهما في إطار مستقر لم يتغيَّر في ظروف الثورة المصرية، كما أن نظام الحكم الجديد في القاهرة يبدي اهتماماً كبيراً بأمن أشقائه في الخليج، وهو ما لخصه الرئيس عبدالفتاح السيسي في كلمة واحدة عند تنصيبه رئيساً وهذه العبارة هي «مسافة السكة» وهو يشير بها إلى الفترة الزمنية التي يحتاجها الأشقاء إذا طلبوا دعم مصر أمام أي خطر محدق مثلما دعموا هم مصر دائماً في ظروفها الصعبة.
ثالثاً: إن الغوص قليلاً في أعماق التاريخ الحديث يوضح لنا دائماً أن التدخل الأجنبي في مصر وفي منطقة الخليج على السواء كان يمضي في إطار الظروف الإقليمية، ولعلنا نتذكر وعود الحلفاء للهاشميين في الحرب العالمية الأولى بتكوين مملكة عربية تحت حكم الشريف حسين إلى أن جاء المغفور له الملك عبدالعزيز بن سعود واستقامت له الأمور واستتب له الحكم، وقد كانت المراسلات بين مكماهون والشريف حسين بمثابة أسس الاتفاق بين من يتطلع لأن يكون ملكاً على العرب وبين المعتمد البريطاني في القاهرة الذي كان يعكس رؤية الحلفاء في ذلك الوقت، وجدير بالذكر هنا أن الحكم السعودي حرص دائماً على علاقات وثيقة وودية مع مصر، ولقد زار الملك عبدالعزيز مصر في عهد الملك فاروق زيارة ودية ما زالت تمثل رصيداً طيباً للذكريات المشتركة بين البلدين.
رابعاً: كان إنشاء جامعة الدول العربية بالأساس نتيجة للتعاون المشترك بين دول الخليج ممثلة بالقوة الأكبر وهي المملكة العربية السعودية حيث حرص الملك عبدالعزيز على اختيار شخصية مصرية لمنصب الأمين العام للجامعة وهو عبدالرحمن بك عزام وظل ذلك تقليداً يربط بين جنسية الأمين العام ودولة المقر حتى الآن، وليس من شكٍّ في أن وجود جامعة الدول العربية - بما لها وما عليها - في القاهرة هو أيضاً مبرر للترابط بين دول الخليج ومصر وتعبير عن الرغبة المشتركة في علاقات مستقرة مستمرة.
خامساً: ليس من شكٍّ في أن ثورات «الربيع العربي» أحدثت هزة كبيرة في المنطقة كانت لها أصداؤها في دول الخليج، فقد تصور البعض أنهم فقدوا بسقوط نظام مبارك حليفاً ولكن التطورات أكدت بعد ذلك أنها علاقات بين الشعوب قبل أن تكون علاقات بين الحكام، ولقد كان الدعم الخليجي لمصر بعد ثورتي 25 يناير و30 يونيو تأكيداً العلاقة المباشرة لأنظمة الحكم في الخليج مع الشعب المصري مباشرةً، فلم يتوقف الدعم والاهتمام بمصر في كل الظروف.
سادساً: لا يشعر الغرب عموماً والولايات المتحدة الأميركية خصوصاً بالارتياح للعلاقات الوثيقة بين مصر ودول الخليج، بل ينظران إلى دعم دول الخليج للثورتين المصريتين بشيء من القلق لأنهما لا يريدان لمصر أن تعتمد على أشقائها أو أن يعتمد الأشقاء عليها، بل يتطلعان دائماً إلى أن يكونا الفاعلان الرئيسيان على الساحة العربية، وعندما أعلن العاهل السعودي عن استعداد بلاده لتعويض مصر عن المعونة الأميركية كان ذلك بمثابة صفعة لرغبة واشنطن في الضغط المستمر على القاهرة، ولن ينسى المصريون المؤتمر الصحافي للأمير سعود الفيصل وزير الخارجية السعودي في العاصمة الفرنسية باريس، عندما عبر عن المعنى ذاته بكلمات مباشرة وواضحة رافضاً الضغط على مصر في ظروفها الصعبة. إننا أمام نموذج غير مسبوق للدعم الخليجي لمصر لم نعرفه إلا بعد نكسة 1967 وقمة الخرطوم التي جاءت بعدها بأسابيع قليلة، فضلاً عن الدور السعودي القومي في استخدام سلاح البترول إبان حرب 1973.
سابعاً: إن ما تتعرض له المنطقة العربية في الفترة الأخيرة من محاولات للتطويق الإرهابي من جانب تنظيمات تتبنى طروحات معادية لفكرة الدولة المستقرة في المنطقة العربية، وهي منظمات ترفع شعارات سوداً تبدو بعيدة من روح العصر، فضلاً عن مجافاتها العروبة والإسلام معاً، أدى ذلك كله إلى مزيد من التقارب بين وجهات النظر المصرية والخليجية، خصوصاً تجاه الموقف التركي والدور الإيراني والأزمة السورية، وتبدو مصر حالياً حريصة على التنسيق مع دول الخليج باستثناء الحساسيات التي تحكم علاقاتها بدولة قطر مع تأثير ذلك على العمل العربي المشترك كله، لأن التغريد خارج السرب يؤدي إلى تشتيت الجهد وضياع الهدف.
هذه بعض المحاور الأساسية في العلاقات المصرية - الخليجية ذات الخصوصية الممتدة عبر مراحل التاريخ المختلفة، والتي عرفت حالات من الازدهار كما مرت بها أيضاً ظروف صعبة، خصوصاً في ظل حكم مؤسس الأسرة العلوية محمد علي وقائد ثورة يوليو 1952 المصرية جمال عبدالناصر، فضلاً عن فترة القطيعة مع مصر بسبب سياسات كامب ديفيد في عهد السادات، وهي قطيعة لم تستمر طويلاً، لأنه لا غنى لمصر عن البعد الاستراتيجي لدول الخليج ولا غنى لدول الخليج عن استقرار الدولة المصرية الذي أوصى به الملك الراحل عبدالعزيز.
د. مصطفي الفقي;
جريدة الحياة
تاريخ النشر: 15 ديسمبر 2014
رابط المقالة: http://www.alhayat.com/article/823898/شباب/مصر-ودول-الخليج-خصوصية-ممتدة-عبر-التاريخ