كنتُ فى صالة كبار الزُّوَّار فى مطار القاهرة الدولى عائدًا إلى مقر عملى فى «فيينا»، التى كنتُ سفيرًا لبلادى فيها، واحتشد عددٌ كبيرٌ من الأصدقاء لتوديعى، وكان من بينهم اللواء طيار عبدالعزيز بدر مدير المطار حينذاك، وهو صديق عزيز، وبعد طول انتظار جاءنى مندوب وزارة الخارجية يقول لى إن كل إجراءات السفر قد انتهت، ولكنه يدعونى إلى التَّريُّث خمس دقائق أخرى حتى يركب جميع الركاب، ونظرًا لكثرة المُودعين وازدحام المكان فإننى قلتُ له إننى أُفضِّل التَّحرُّك الآن إلى الطَّائرة بدلاً من الانتظار فى القاعة، وبالفعل صافحتُ المُودعين واتجهتُ بسيارة العلاقات العامَّة لشركة مصر للطَّيران فى اتجاه الطائرة، ولاحظتُ أن الطَّائرة تتحرك، فسألتُ مندوب الخارجيَّة ومندوبة العلاقات العامَّة: «ما هذه الطَّائرة التى تتحرك الآن؟» فردَّت فتاة العلاقات العامة بكل براءة: «هذه طائرة فيينا»، فأُسقط فى يدى، وشعرتُ بالخطأ الفادح الذى وقع، وهو أن أصل إلى المطار مُبكرًا وتفوتنى الطائرة بسبب سوء تصرُّف مندوب الخارجيَّة، فطلبتُ من السَّائق الإسراع حتى لحقنا بالطائرة وهى تتحرك ببطء، ونزلتُ من السَّيارة ووقفتُ أشير إلى الطَّيار، وكانت دهشتى أنه وقف وأعاد السلم وفتح الباب، وأنا فى ذهول، فخرج الكابتن من قمرة الطائرة وقال لى: «إننى توقفتُ لأننى أعرفك شخصيًّا، ولكن الإجراء الذى حدث إجراء خاطئ، ولذلك فإننى أطلب منك كتابة مُذكرة بما حدث لأبرر بها هذا التَّصرُّف من جانبى»، فقلتُ له: «وكيف تتحرك يا كابتن وحقائب أحد الركاب فى بطن الطائرة وهو غير موجود عليها؟!» فقال لى: «إن البوردنج كارد (أى بطاقة الركوب) الخاصة بكم قد جرى تسليمه لنا، بما يعنى أنك موجود معنا».
وقد اكتشفتُ أن مندوب الخارجيَّة من فرط حرصه على إراحتى قد أتمَّ كل الإجراءات بحيث أدخل الطائرة فقط كآخر راكب، وتمَّت الرحلة ووصلت إلى «فيينا» لأجد عشرات الاتصالات من شركة مصر للطيران طلبًا لتفسير ما حدث، وقد انتهى الأمر بأن قامت إدارة الأمن بوزارة الخارجية بإيقاف مندوبها الذى رافقنى فى المطار، بينما جرى نقل فتاة العلاقات العامَّة إلى إدارة أخرى، وفى رأيى أنها كانت ضحيَّة لأن المسئوليَّة كانت تقع بالكامل على مندوب الخارجيَّة، ولو أننى استمعتُ إلى نصيحته لبقيت فى قاعة كبار الزوار حتى تُحلِّق الطَّائرة فى الأجواء ويصبح اللحاق بها مُستحيلاً.
إننى أحكى هذه القصة لأُبيِّن أن شدة الاهتمام قد تؤدى أحيانًا إلى نتيجة عكسيَّة، ولقد اكتشفتُ على سبيل المثال أن الطبيب الذى يعالج أحد أقاربه ويعطيه من الاهتمام ما يزيد على المطلوب قد لا يتمكن من تحقيق الشفاء له، كذلك فإن مندوب الخارجيَّة الذى أمعن فى تحقيق أقصى درجات الاهتمام والرَّاحة لى قد أدَّى إلى احتمال أن تفوتنى الطائرة.. إننى أتذكَّر هذه الحادثة وأنا أحمد الله أن قاعات كبار الزُّوَّار قد أُغلقت منذ سنوات، وأصبحت بمقابل مادى لرجال الأعمال ومَنْ فى مستواهم، ولم يَعُدْ الأمر مُتاحًا لأى دبلوماسى قادم أو مُسافر، ولقد لاحظتُ أن ذلك أمرٌ معمولٌ به فى معظم دول العالم، حيث إن لكل خدمة ثمنًا ولا يوجد شىء بلا مقابل إطلاقًا، ولاشك أن الاتجاه الجديد فى إدارة الحياة الاقتصادية فى مصر يقترب من هذا المفهوم ويبتعد عن محاولات المجاملة للكبار على حساب الصغار، ولقد ذكرتنى هذه الحادثة أيضًا بأن الطائرة لا يمكن أن تتأخر إلا لسبب يتصل بها من عطل فنى أو انتظار لركاب الترانزيت، ولكن الأصل دائمًا هو الالتزام بموعد التحليق لأن المجال الجوى يكون مفتوحًا لكل طائرة وفقًا لإبلاغ مُسبق، ومن خلال مسار مُحدد، وإذا تأخرت طائرة عن موعد إقلاعها لبضع دقائق فإنها تكون مُطالبةً بالانتظار لتحديد مسار جديد لها وفقًا لحركة الطيران فى المنطقة التى تُحلِّق منها، وقد لاحظتُ أن قواعد الطيران المدنى هى جزء من منظومة دوليَّة وإقليميَّة لا يمكن العبث بها.
مجلة 7 أيام
13 سبتمبر 2018
https://www.7-ayam.com/إعادة-فَتْح-باب-الطائرة/