كلما ادلهمت الأمور في الوطن العربي وتكاثرت السحب في سمائه وأحاطت به التحديات من كل جانب وطوقته المشكلات من كل اتجاه، تبادر إلى ذهني المدخل الصحيح لمواجهة ما جرى وما يجري، فالمد الديني الذي اجتاح المنطقة في العقود الأخيرة قد اقتطع تلقائياً من مساحة الانتماء القومي، ورغم كل محاولات التوفيق أو حتى التلفيق بين التيارين القومي والديني، العروبي والإسلامي، فإننا لم نتمكن من حسم الأمر بل انحصر التيار القومي وترك مساحات واسعة ليشغلها التيار الديني. إنني أريد أن ألفت النظر إلى الحقائق التالية:
أولاً: إن العرب يملكون من مقومات التكامل بل التوحد ما لا تملكه أمة أخرى خصوصاً أن الدراسات الحديثة التي بحثت في العوامل المؤدية إلى وحدة الأمم وتماسك الشعوب قد ركزت في الأساس على عامل اللغة والتي لا تعني فقط وحدة اللسان ولا الشراكة في البيان ولكنها تمتد إلى ما هو أبعد من ذلك لتصل إلى أسلوب التفكير وطريقة الحياة، ولقد بشرت في كتابي «تجديد الفكر القومي» الذي صدر منذ أكثر من 20 عاماً على عنصر اللغة الواحدة باعتباره «العمود الفقري» الناجم عن حركة التاريخ وطبيعة الجغرافيا بينما تبدو العوامل الأخرى التي جرى التركيز عليها في الدراسات التقليدية للنظرية القومية أقل أهمية، ولقد لاحظت عندما كنت برلمانياً أشارك في المؤتمرات الدولية أن أعضاء البرلمان الأوروبي يتحدثون إلى بعضهم بعضاً من خلال «كبائن الترجمة الفورية» لأنه لا توجد لدى الأوروبيين لغة مشتركة واحدة بينما من فرط ما لدينا - نحن العرب - من مقومات الوحدة الحقيقية فإننا نتباعد ولا نتكامل ولا نتحد، من هنا فإنني أؤكد صراحة أن العامل القومي يستند إلى عنصر اللغة قبل غيرها، ولقد وجدت أن أدق تعريف لـ «الإنسان العربي» هو «كل من كانت العربية لغته الأولى» فإنا ممن يؤمنون بأن اللغة هي وعاء القومية وسندها الأول، وبالمناسبة فإنني أرى أن العامل الديني في الإطار القومي ينبغي أن يتراجع وألا يكون مصدراً للفرقة والانقسام.
ثانياً: إن الذين حملوا لواء القومية العربية في فجرها المبكر كانوا عناصر من المفكرين العرب - وبعضهم كان في المهجر - بينما كانت نسبة لا بأس بها منهم من المسيحيين العرب الذين تجاوزوا الحاجز الديني ليدخلوا في الإطار الرحب للفكرة القومية التي تستند إلى عامل اللغة المشتركة بما تصنعه من ثقافة واحدة ونسق فكري وبناء حضاري يضع الإطار الصحيح لمفهوم القومية بمعناها المعاصر، ولذلك فإنني أدعو بإلحاح إلى الدفع بالعامل القومي على الساحة العربية وتوظيفه في خدمة المستقبل العربي، خصوصاً إذا كان العرب مستهدفين بكل أسلحة التمزق وأساليب التفرقة وأنواع الضغوط، عندئذ يكون العامل القومي هو الذي يجب أن يقود وليس سواه من «نعرات دينية» أو «مذهبية» أو «طائفية».
ثالثاً: إن العروبة قد ارتبطت بالإسلام ارتباطاً جوهرياً في بدايات الدعوة وعصور الفتوحات وليس هناك جدال في أن الإسلام الحنيف قد ارتكز على مفهوم «العروبة» ولكن بشكل غير عنصري، ويكفي أن القرآن الكريم نزل عربياً ولأن العربية هي لغة القرآن فإن العامل القومي يحمل في مضمونه جانباً روحياً حتى وإن لم تكن له دلالة مباشرة، لذلك فإن العروبة لا تتعارض مع الإسلام، ويكفي أن نتذكر أننا نسمّي تاريخنا القومي بتاريخ الحضارة العربية الإسلامية ولكننا نزعم في الوقت ذاته بأن العامل القومي هو القائد وهو «المتغير المستقل» الذي تتبعه العوامل الأخرى، ولا أجد وقتاً يستحق فيه العرب أن يركزوا على الجوهر القومي في تاريخهم الحديث مثلما هو الآن، فالإرهاب يحيط بهم والتطرف الديني يلاحقهم، والتآمر الأجنبي يطاردهم من كل اتجاه، بل إن القوتين الإسلاميتين اللتين تحيطان بالعالم العربي وهما إيران وتركيا تحاولان - بشكل مباشر أو غير مباشر - النيل من تماسك العرب والتدخل في شؤونهم ومحاولة إضعاف قوتهم، لذلك فإن العروبة هي الملاذ الذي يجب أن يعتصم به العرب في هذه الظروف.
رابعاً: أن لدينا دليلاً من استقراء التاريخ يتمثل في ازدهار المنطقة خلال سنوات المد القومي، ولعل الحركات الوحدوية الحديثة تؤكد ذلك المعنى، فالناصرية وحزب البعث العربي الاشتراكي والقوميون العرب والاشتراكيون الوحدويون وغيرها من الحركات القومية قد ارتبطت بازدهار المنطقة وأسهمت في الصحوة الوطنية لكل قطر عربي، بل كانت الحركة القومية هي السند الحقيقي لحركة التحرر والاستقلال الوطني في المنطقة، ولذلك فإن الارتباط بين المد القومي والتحرر الوطني ارتباط شرطي والتلازم بينهما أمر تؤكده شواهد التاريخ القريب، وهل هناك شك في أن التيار القومي الكاسح في نهاية الخمسينات وبداية الستينات من القرن الماضي هو الذي أسهم بالنصيب الأكبر في تحرير الجزائر وإنهاء سطوة الاستعمار في المنطقة بل والقضاء على ظاهرة الاحتلال العسكري في وقتها؟ وهل ننسى أن عبدالناصر استطاع أن يتجاوز نكسة 1967 من خلال التضامن القومي الذي أسهم فيه الملك فيصل بن عبدالعزيز وانعكست مظاهره في الاستقبال التاريخي الذي حظي به عبدالناصر في القمة العربية بالخرطوم في شهر آب (أغسطس) بعد أقل من شهرين من الهزيمة العسكرية عندما خرجت الجماهير في السودان لتعلن رفض ما جرى وتجدد الثقة في التيار القومي وقياداته.
خامساً: إن المحاولات الأجنبية لإجهاض التيار القومي معروفة للجميع ويكفي أن نتذكر القلق الذي يصيب الولايات المتحدة الأميركية والغرب عموماً من تنامي التيار القومي في سنوات صحوته، بينما يرحب الغرب بتنامي التيار الديني بل ويشجعه ويروّج له، أليس ذلك دليلاً دامغاً يوضح ما يفيد العرب وما يضرهم! وما يؤكد أن التيار القومي وازدهاره مرتبطان بتقدم العرب ووحدتهم وأن موقف أعداء العرب من ذلك التيار على المستويين الإقليمي والدولي يؤكد صحة ذلك، لذلك يجب الرهان على ذلك التيار القومي الذي يرتبط ارتباطاً مباشراً بالصحوة العربية ويمهد لمستقبل أفضل، فالتيار القومي لا بديل له للحفاظ على تماسك الأمة ووحدة العرب، لذلك فإن الذين ينتقدون جامعة الدول العربية أحياناً - وقد يكون معهم الحق - فهم يضربون في رمز لوحدة العرب وتضافر جهدهم من أجل قيام تنظيم دولي عربي فاعل، من هنا جاءت محاولات تطوير الجامعة وتحديث أساليب عملها ومناهج التفكير فيها وصولاً إلى تعديل الميثاق ذاته إذ أن العرب مختلفون الآن عما كانوا عليه منذ سبعين عاماً حين صدر ميثاق الجامعة عام 1945 ولا بد لهم أن يفكروا بأدوات العصر وحسابات التقدم التكنولوجي الكاسح الذي عرفته العقود الأخيرة فضلاً عن تغير المزاج الدولي ودخول المنطقة في دائرة اهتمام قوى جديدة لم تكن هي بالضرورة ذات القوى المطروحة عند إنشاء الجامعة، كما أن الصراع العربي الإسرائيلي يدخل مرحلة جديدة تكاد تقترب من محاولات التصفية في ظل الانقسام الفلسطيني الذي آثرت بعض أطراف المقاومة فيه الاعتماد على مظلة إسلامية والانتماء الى التيار الديني بديلاً للتيار القومي الذي قاد من قبل حركات النضال الوطني وحقق فيها إنجازات باهرة بسبب تماسك الأمة ووحدة أطرافها بعيداً عن الصراعات التي تخلقها الانتماءات الدينية أو الانقسامات الطائفية. إننا نريد أن نقول صراحة إن التيار القومي - والتيار القومي وحده - هو القـــادر علــــى تخليص القضايا الوطنية من العبء الذي ترزح تحته وتحقيق الخلاص الذي ننشده.
إن الأمة العربية التي تمر بظرف غير مسبوق في تاريخها الحديث لن تتردد في التركيز على هويتها القومية والدفاع عن مفهوم العروبة لأنها هي الملاذ الأول والأخير في ظل الأجواء العاصفة والظروف الصعبة التي تواجهها المنطقة في السنوات الأخيرة، ويكفي أن نتذكر أن العروبة قد تراجعت في العراق واهتزت في سورية وجرى الاعتداء عليها في مصر بمنطق جماعة دينية حاولت سرقة الهوية والعبث بمقدرات أكبر دولة عربية، كما أن ثورات الربيع العربي جرى توظيفها في الغالب لخدمة التيار الديني وليس التيار الوطني الحقيقي، كما أنها لم تستظل بالتيار القومي الذي كان يجب أن تصب فيه كل ثورات الربيع العربي وانتفاضاته، ولكن الذي حدث هو أن معظمها قد جرت سرقته لصالح التطرف الديني القائم على العنف السياسي والتحول إلى الإرهاب بأساليبه القبيحة وممارساته الإجرامية.
إن المخرج الوحيد لنا نحن العرب هو الاعتصام بالتيار القومي الذي يجب أن يدعمه كل عربي مخلص لوطنه، حريص على شعبه، مؤمن بأمته.
د. مصطفي الفقي;
جريدة الحياة
تاريخ النشر: 18 مايو 2015
رابط المقالة: http://www.alhayat.com/article/815022/شباب/ضرورة-دعم-التيار-القومي