شهدت المنطقة العربية في السنوات الأخيرة عدداً من الظواهر التي لم تكن واضحة من قبل، وتميزت بعملية صعود وهبوط للقوى العربية المختلفة بفعل ظروفها الداخلية أو تأثير العالم الخارجي - دولياً وإقليمياً -عليها وأصبحنا أمام ظواهر تستحق الدراسة والتأمل بجميع المعايير، ولقد رصدت كتابات كثيرة تلك التحولات ولم تتمكن من الوصول إلى توصيف دقيق للحالة العربية العامة بأبعادها المختلفة، وها نحن نجازف بطرح عدد من المظاهر التي برزت في العقود الأخيرة وأصبحت أقرب إلى الظواهر المستمرة منها إلى المشاهد العابرة:
أولاً: ما زالت القضية الفلسطينية وهي القضية العربية المركزية الأولى تراوح مكانها حرباً وتفاوضاً، ولكنها ظلت أيضاً قضية مفتوحة تنزف دماً وتذرف دمعاً لشعب تكالبت عليه قوى غربية وتحت مظلة استعمار استيطاني توسعي عنصري حاول أن يخلط بين الكفاح المسلح والمقاومة الوطنية في جانب وبين الأعمال الإرهابية وممارسة العنف العشوائي في جانب آخر، ولنا أن نسجل هنا صراحة أن القضية الفلسطينية قد جرى استغلالها طويلاً حتى أضحت مثل «قميص عثمان» يرتديه كل من يشاء ويستخدمه كل من يريد، وعلى رغم التضحيات العربية من أجل القضية إلا أن الانقسام الفلسطيني في السنوات الأخيرة قد أثر سلباً في إنجازات الشعب الذي يناضل من أجل استرداد أرضه واستعادة وطنه ووجود عاصمته. إننا أمام حالة معقدة عكست آثارها لا على الخارج العربي فقط، بل والداخل الوطني أيضاً في كل قطر، فقد تتراجع القضية أحياناً بفعل مشكلة طارئة أو أزمة عابرة ولكنها تظل في العقل العربي بل والضمير الإنساني في موقع الصدارة دائماً، ثم إنها منذ بدايتها حتى الآن هي تعبير دقيق عن سياسة دولية تقوم على «ازدواج المعايير» و «الكيل بمكيالين» وحماية إسرائيل من كل نقد أو لوم بغطاء أميركي غربي.
ثانياً: لقد قال لي مفكر عربي لبناني ذات يوم «إننا نقيس عروبة أي سياسي عربي من خلال إيمانه بدور مصر لأنه يعني سلامة التفكير وصدق النية». فمصر كانت دائماً هي مركز الثقل العربي وليس في ذلك شوفينية أو ادعاء، لقد حملت الراية سياسياً وثقافياً وعسكرياً على امتداد التاريخ، وهذا قول معقول في مجمله ومقبول في معظمه، والدليل على ذلك أن تراجع ذلك الدور قد أدى إلى انتكاسات واضحة على المستويين العربي والإقليمي، فمنذ رحيل جمال عبدالناصر - بما له وما عليه - والذي كان يحمل راية القومية ويبشر بفكر عروبي قد يتفق معه البعض أو يختلف، منذ ذلك الوقت والأمة العربية تواجه حالة من التردي والهبوط خصوصاً بعد سياسات «كامب ديفيد» وتوقيع معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية في 26 آذار (مارس) 1979، فلقد بدا منذ ذلك الحين أن إسرائيل تستطيع العربدة في المنطقة بدءاً من غزو لبنان مروراً بمذبحة قانا بعد مجازر صبرا وشاتيلا وغير ذلك من الممارسات الإرهابية التي تخصصت فيها الدولة العبرية، وإذا كان البعض يتصور أن خروج مصر عسكرياً من ساحات القتال يعني انسحابها سياسياً من العمل العربي المشترك فإن ذلك تصور مغلوط ولا يتفق مع الحقيقة، وإن كنا لا ننكر أن غياب دورها قد ترك مساحة من الفراغ الذي شغلته أو حاولت أن تشغله قوى شرق أوسطية غير عربية مثل إيران وتركيا، وتلك كلها ظواهر وفدت على المنطقة وأحدثت خللاً في ميزان القوى الاستراتيجي بين العرب وغيرهم.
ثالثاً: إن سقوط العراق الذي حدث بعد الإطاحة بنظام صدام حسين قد أدى هو الآخر إلى هزة عنيفة خصوصاً أن تسريح جيش العراق القوي وتحطيم مؤسساته الأمنية والسياسية قد أديا إلى تكريس الفراغ في المنطقة وإعطاء الفرصة للطامعين فيها وفي مقدمهم إسرائيل بأن يمارسوا قدراً كبيراً من الضغوط التي تستهدف العالم العربي وتسعى لتقويض أركانه، ولا شك أن العراق واحد من أكثر دول المنطقة ثراءً، ففيه المياه والنفط والأرض الخصبة والعنصر البشري المتميز فضلاً عن التاريخ الحضاري العريق، لذلك جاء انهيار الدولة العراقية بمثابة ضربة إجهازية على القوة العربية ولطمة للعمل العربي المشترك، ولحسن الحظ أن تصاعد الدور الإقليمي لدول الخليج قد أسهم مباشرة في تعويض مساحة من غياب مصر والعراق إلى أن جاءت المأساة السورية لتحكم الحلقة على الشعب العربي وتنشر الأشلاء والدماء والدموع وملايين اللاجئين من ذلك القطر العربي الذي كان دائماً قلعة للقومية وملاذاً للعروبة، وما زالت المنطقة العربية مشتعلة بالصدامات والصراعات التي تستهدف الكيان العربي كله وتحاول النيل منه وهو ما فتح ثغرات واسعة لوفود جماعات إرهابية وعناصر إجرامية لاقتحام العالم العربي والوصول إلى أقطاره المهمة في العراق وسورية وليبيا واليمن أيضاً، فنحن أمام مشهد ملتبس لا يبدو الخروج منه ميسوراً.
رابعاً: لا يختلف اثنان أن جامعة الدول العربية قد أصبحت مجرد رمز في ظل أداء متواضع لا يرقى إلى مستوى التحديات القائمة أو الآمال المطلوبة، وهنا لا بد من كلمة حق، إذ إن جامعة الدول العربية لا تملك دوراً في حد ذاتها ولكنها محصلة لمجموع إرادات الدول الأعضاء وهي تعكس مدى رغبتهم في انتشال تلك المنظمة الإقليمية القومية التي سبقت ظهور الأمم المتحدة من وهدتها والخروج بها من أزمتها لأنها أصبحت مجرد مؤسسة للاصطفاف الشكلي من دون محتوى يسمح باتخاذ قرارات تتصل بجوهر المشكلات القومية والمعاناة العربية خصوصاً في مجالات التعليم والثقافة والبحث العملي وهي مجالات أصبحت في عالم اليوم ذات أولوية تسبق العمل السياسي ذاته.
خامساً: إن ثورات «الربيع العربي» أدت إلى ردة ملحوظة في عدد من الأقطار العربية التي زارها ذلك الربيع المزعوم الذي يحار الجميع حتى الآن في تفسير ظروفه وإجراءاته والقوى الأجنبية التي خططت له. فنحن مع الثورات الشعبية ضد الاستبداد والفساد على ألا تسرقها قوى دخيلة على الوطن وبعيدة عن هويته أو مختلفة مع وسطيته مثلما حدث في الحالة المصرية عندما سطت جماعة «الإخوان المسلمين» على السلطة والحكم لمدة عام شعر المصريون خلاله بأنهم دخلوا في دوامة جديدة كرد فعل لغياب العدالة الاجتماعية وشيوع الفقر وانتشار الفساد والاستبداد، لذلك فإن ثورات «الربيع العربي» هي كالحق الذي يراد به باطل، ولا نستطيع أن ننكر أنها بدأت باستجابة قوية لمطالب المواطن العادي الذي يعاني البطالة واتساع الهوة بين الطبقات الاجتماعية وانعدام الثقة في الحكم القائم والإحساس بشيوع الفساد وضغوط قبضة الاستبداد، والملاحظ أن غالبية هذه الثورات قد خيبت الآمال ونشرت الفوضى وتسببت في الانفلات الأمني، ما أدى إلى اهتزاز ميزان القوى داخل المجموع العربي في مواجهة القوى الإقليمية الأخرى غير العربية وفي مقدمها إسرائيل وتركيا وإيران مع الفارق النسبي بين كل حالة منها.
سادساً: لقد نحت دول المغرب العربي منحى خاصاً بالابتعاد نسبياً عن مشكلات المشرق العربي وذلك أمر لا يعتبر وليد اللحظة، فعرب شمال أفريقيا كانوا أقرب إلى المشرق في غمار الثورة الجزائرية والسنوات التي تلتها وأيضاً في ظل سياسات القذافي التي كانت تتسم بالغرابة ولكنها كانت تطرح فكرة العروبة بقوة في ذلك الإقليم العربي المجاور لأوروبا والمتميز ثقافياً وحضارياً، ولقد عدت من زيارة قريبة للمملكة المغربية وراعني فيها ذلك التقدم الهائل على المستويين النظري والعملي، وقد اعترفت المملكة بالامازيغية كلغة رسمية بجانب اللغة العربية، واستطاع الملك الذكي محمد السادس أن يقود ثورة ربيع عربي في بلاده وأن يتبنى مطالب شعبه قبل أن يثور من أجلها، ولا شك أن دول المغرب العربي في مجملها - ربما باستثناء ليبيا - تبدو في وضع نسبي أفضل من بعض دول المشرق العربي، كما أن تلك الدول تمثل قوة هائلة في الإطار العربي فضلاً عن حضورها الواضح في جامعة الدول العربية والاتحاد الأفريقي، ولعل النموذج الجزائري يؤكد ذلك.
سابعاً: إن صورة العرب لدى الآخر هي جزء لا يتجزأ من ميزان القوى ومراكزها صعوداً وهبوطاً خصوصاً في السنوات الأخيرة، وهي تعبير عما يراه غيرنا فينا، لا سيما أن الهجمات الإرهابية التي يمارسها تنظيم «داعش» وأمثاله قد أدت إلى حالة من التداخل والالتباس للمشهد العربي أمام الغير وأشعرت الجميع أن العرب مهددون تهديداً غير مسبوق حتى أن الدولة الوطنية في كل قطر قد أصبحت موضع استهداف وتهديد وهو أمر لا نراه غائباً عن الساحة الدولية بكل ما فيها.
هذا طواف سريع يؤكد التحول في مراكز القوى العربية على المستويات الإقليمية والدولية ويعطي مؤشرات للمستقبل لا يبدو معظمها إيجابياً بل هو يحتاج إلى إرادة عربية واعية تقتحم المشكلات، وتواجه التحديات وتعالج الأزمات.
د. مصطفي الفقي;
جريدة الحياة
تاريخ النشر: 24 أغسطس 2015
رابط المقالة: http://www.alhayat.com/article/824266/شباب/التحول-في-مراكز-القوى-العربية