دعتني مكتبة الإسكندرية منذ أيام، الى حضور الدورة الثانية من مؤتمرها السنوي حول الإرهاب، وكان عنوانه هذا العام «صناعة التطرف والبحث في أساليب المواجهة الفكرية». ولا شك في أن التطرف تعبير سلوكي، أما الإرهاب فهو تعبير إجرامي، لذلك سعيت إلى ذلك المؤتمر الذي حضرته رموز من العالمين العربي والإسلامي وبعض الشخصيات من الدول الأوروبية. وكان دوري أن أترأس الجلسة الأولى التي تحدّث فيها ثلاثة مفكرين من مصر والجزائر ولبنان حول جذور التطرف ومشاهده المعاصرة، وقد حرصت على إعطاء ذلك الحشد الكبير من الحاضرين فرصة للمداخلات والحوارات تجاوزت نصف مدة الندوة بالكامل، وطرح الجميع رؤاهم وعبّر الكل عن آرائه، وكانت فرصة مناسبة في توقيت حسَّاس وخطير للتداول حول أهم قضايا العصر، ونعني به الإرهاب بتداعياته الخطيرة وملابساته غير المفهومة أحياناً. لكننا نعود لنقرر أنه ينمو في بيئة حاضنة وفي مناخ محدّد، بحيث تتميز الأجواء المحيطة بالجرائم الإرهابية بدرجة كبيرة من الأحقاد الدفينة أو التوترات الطارئة، وهي تحتاج بالتأكيد إلى نزعة إجرامية متأصّلة تدعو الإرهابي إلى أن يتصرف على النحو الذي نراه، ولقد خرجت من تلك الندوة بملاحظات عدة لعلّنا نطرح منها بعض النقاط المهمة مثل:
أولاً: إن الشعور بعدم جدوى الحياة ومحاصرة المتطرف بعوامل ضاغطة مادية ونفسية هو أمر ملحوظ، ولعلنا نتأمل الحالات التي أقدم فيها إرهابيون على الانتحار باستخدام أحزمة ناسفة أو تفجير ذاتي بقنبلة تطيح الإرهابي وبمن حوله. فالدراسات العلمية تؤكد أن مثل هذا الشخص يكون مأزوماً في حياته قادماً من بيئة مقهورة تحكمها الحاجة والعوز. ولاحظ بعض الخبراء في المؤتمر، أنه على رغم وجود بعض المواطنين من تركيا وماليزيا في تنظيم «داعش»، إلا أنه لم تُثبت أبداً مشاركة أي من مواطني هذين البلدين في عملية انتحارية واحدة، والسبب في ذلك أن الحياة في الدولتين أفضل وتحتاج إلى من يتمسّك بها ويعيش من أجلها ولا يضحّي بحياته دونها. لذلك، فإن عملية «التفجير الذاتي» هي قمة المأساة الإنسانية لأنها تعني أن الحياة والموت يستويان، ولا يخفى علينا أن من يقوم بمثل هذا التصرف الجنوني يكون قد خضع لسلسلة طويلة من عمليات غسل الدماغ والحقن الأيديولوجي. والغريب في الأمر، أن بعض من قاموا بعمليات انتحارية باسم تنظيم «داعش» كانوا قد التحقوا به قبل أسابيع قليلة فقط، بحيث جرى إعدادهم في فترة قصيرة للغاية تجعلنا ندهش كيف جرى ذلك الإعداد السريع لاتخاذ قرار بهذه الخطورة، حيث يدفع المرء حياته ثمناً لجنون فكري في لحظة واحدة!
ثانياً: إن الإرهاب هو سرطان العصر لأنه يعني تمرّد الخلايا الإرهابية على الجسد الإنساني وتدمير أجهزة المناعة فيه، والعبث بمقومات الدولة التي عرفها المجتمع الإنساني منذ فجر التاريخ. كما أن الإرهاب يستهدف مراكز الأعصاب السياسية والاقتصادية والثقافية. وهل نسينا ما قام به تنظيم «داعش» وتوابعه تجاه المتاحف التاريخية والآثار القديمة، في محاولة لطمس ذاكرة الشعوب والعبث بهويتها. وقد رأينا كيف حطموا رموز العصور المختلفة بكسر رقاب التماثيل وتدمير معالمها، بل زادوا على ذلك بضرب الآثار الإسلامية ذاتها وتحطيم الأضرحة والقبور والمزارات حتى وصلنا إلى ما يمكن تسميته بحرب المساجد. ولعلّنا نتذكر هنا، أن بعض عناصر التطرف في الفكر السلفي قد دعَّم نظرياً - ومن دون عنف - بعض التوجهات الفكرية التي تخدم التنظيمات الإرهابية من دون قصد، وهو أمر يجب الاحتراز منه والوعي بنتائجه.
ثالثاً: ما أكثر الندوات التي دُعيت إليها، والتي تنظّمها هيئات ومؤسسات حكومية وأهلية وتدور في معظمها حول قضية الإرهاب، باعتباره طاعون العصر الذي وفد علينا لكي نعيش من خلاله أجواء الحرب العالمية الثالثة من دون جيوش نظامية على النمط التقليدي للحروب، اكتفاءً بالكر والفر على امتداد ساحة العالمين العربي والإسلامي. وفي كل ندوة، يسهب المتحدثون ويفكر المنظرون ويتحدث الخبراء. ومع انتهاء تلك الندوة، نبدأ من الصفر ونعاود الكرة مجدداً، متصوّرين أن مواجهة الإرهاب يمكن أن تتم بالندوات السياسية والاجتماعات المتخصصة، بينما يحتاج الأمر إلى دراسات ذات طابع أكاديمي تقوم على العلوم العسكرية والمظاهر السلوكية، بل والعلوم الاجتماعية في مجملها لأننا أمام ظواهر غير مسبوقة تحتاج إلى تأصيل نظري ومسح ميداني مع إعلام قوي يكشف جيوب الإرهاب ويفضح مخططاته. على أن تقوم المنظمات الدولية والإقليمية بدور فاعل في توحيد الكلمة وإبراز حجم الأخطار واستبعاد الخلافات الثانوية من أجل الخطر الأصيل الذي لا يجب أن نغفل عنه.
رابعاً: لا أريد أن أزرع التشاؤم أو أوحي بما يخيف، لكنني أقول بوضوح إن من يتصوّر أن القضاء على الإرهاب أمر عاجل، فهو واهم لأننا أمام ظواهر معقدة. لذلك، فإننا نتوقع تصاعد وتيرته واشتداد أزمته، خصوصاً في ظل التصعيد الذي تشهده المنطقة حالياً بسبب تدهور العلاقات العربية - الإيرانية، خصوصاً بعد إعدام رجل الدين الشيعي نمر النمر الذي هو مواطن سعودي بالدرجة الأولى، بحيث يعتبر حكم القضاء السعودي شأناً داخلياً لا يجب التدخل فيه. لكن المسألة تزداد تعقيداً في ظل الأزمة السورية والوضع في اليمن، مع الدور الذي يلعبه الإرهاب على نحو لا يمكن تجاهله.
خامساً: إن صناعة الإرهاب لا يمكن أن تواجهها إلا صناعة من نوع آخر تكون ذات طابع سياسي واجتماعي وفكري، فالإرهاب صناعة الموت أما الثقافة والأدب والفن فهي صناعة الحياة، ولا يمكن أن يستقيم الأمران. لذلك، فإن المواجهة حتمية والصدام لا يمكن استبعاده لأن علاج ظاهرة الإرهاب يحتاج إلى أكثر من مرحلة، إحداها في المدى القصير وهي إجراء أمني قتالي لا يمكن تحاشيه، أما على المدى الطويل فإن الحل يكمن في حزمة من الإجراءات السياسية والفكرية والاجتماعية تقتحم الظاهرة في جوهرها وتكشف زيف الادعاءات التي يروّج لها أولئك الذين يستخدمون الإسلام الحنيف في محاولة لتطويع أحكامه والعبث بشريعته، استناداً إلى قصص وهمية وأحاديث مشكوك فيها من دون اعتبار لما جاء في القرآن الكريم والسُنة المطهرة. إن ما يقوم به الإرهابيون هو جريمة موجّهة ضد الدين قبل الدولة، حتى يجري تأليب الغرب علينا والقوى المعادية لنا، ولقد نجحوا في ذلك إلى حدّ كبير، فقد أصبحت صورة العربي عموماً والمسلم خصوصاً، صورة مشوّهة أمام الآخر، وأصبحنا المتهمين دائماً في كل جريمة بحيث يشار إلينا باعتبارنا نقف وراء الإرهاب وندعمه في كل وقت. فنحن دافعو الفاتورة المزدوجة في كل حين! لذلك، أصبح من المتعيّن علينا أن نواجه الموقف بشفافية ووضوح، وأن نخاطب العالم باللغة التي يفهمها اعتماداً على أدلة عقلية وليست روايات نقلية. إن خطابنا الخارجي يجب أن يمضي وفقاً للقواعد الحديثة في لغة العصر الذي نعيشه، وليس بترديد عبارات أو نصوص لا يؤمن بها الطرف الآخر.
سادساً: إن ألوان الطيف السياسي والديني في العالم العربي والإسلامي يجب أن تتضافر في مواجهة الظاهرة الإرهابية وترشيد التطرف الفكري، لذلك فإن التعليم يبدو أساسياً في هذا السياق لأننا لن نتقدم إلى الأمام إلا بالاعتماد على حرية الفكر واحترام خيارات كل طرف لخيارات الطرف الآخر مع الابتعاد من التعصب والتشنج والعناد. وعلى الجميع - مسلمين ومسيحيين - الوقوف بصلابة ومن دون تفرقة طائفية أو صراعات دينية، إذ إننا في قارب واحد، فإما أن ننجو كلنا أو نغرق جميعاً لا قدر الله.
سابعاً: إن مستقبل ظاهرة التطرف الفكري والإرهاب الدموي يحمل في طياته مفاجآت كثيرة، ويأتينا يومياً بجديد لأن طبيعة الحياة تقوم على الصراع، كما أن فلسفة الوجود تمضي وفقاً للتنميط والاختلاف. وعلينا أن نؤهل الأجيال المقبلة لغير ما كنا عليه، بحيث تكون قادرة على اقتحام المستقبل وارتياده بشجاعة وحصافة وحكمة. إننا لا نلقي المواعظ، لكننا نريد أن ندرك أن زوال الغمة ونهوض الأمة أمران متلازمان، فكلما مضينا على طريق التقدم كانت فرصتنا أكبر في الوصول إلى الغايات النبيلة التي يتطلّع إليها الإنسان العربي والمسلم.
هذه ملاحظات رأينا أن نتقدّم بها ونحن نناقش قضايا التطرف الفكري والإرهاب الدموي، وكان التحريض على اقتحام هذا الموضوع مرة أخرى نابعاً من ندوة عروس البحر الأبيض المتوسط في مكتبة الإسكندرية!
د. مصطفي الفقي;
جريدة الحياة
تاريخ النشر: 11 يناير 2016
رابط المقالة: http://www.alhayat.com/article/835994/شباب/التطرف-الفكري-والإرهاب-الدموي