إن علاقة العرب بالمنظمات الدولية بدأت منذ استقلال الدول العربية وبروز شخصياتها الدولية وكيانها الوطني، وقد شاركت دول عربية في أعمال عصبة الأمم وكان لبعضها حضور واضح في الأعمال التحضيرية لإنشاء منظمة الأمم المتحدة عام 1945 وترأس عدد من العرب جمعيتها العامة ووصل عربي من مصر إلى أرفع منصب دولي، عندما جرى انتخاب الراحل الدكتور بطرس بطرس غالي لمنصب أمين عام الأمم المتحدة. هذا من الناحية الرسمية أو الشكلية أما من الناحية الموضوعية فإن علاقة العرب بالتنظيم الدولي عموماً علاقة ممتدة فقد كان مدير عام الوكالة الدولية للطاقة الذرية عربياً من مصر، وترأس البرلمان الدولي عربيان أحدهما من السودان والثاني من مصر، كما كان مؤسس صندوق منظمة «أوبك» عربياً أيضاً هو الراحل الدكتور إبراهيم شحاتة من مصر، والأمر نفسه ينسحب على منظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية ودور إبراهيم حلمي عبدالرحمن فيها، وعلى رغم محنة التنظيم الدولي المعاصر إلا أن الدور العربي لا يزال مؤثراً وفعالاً وذلك لا ينفي أن القضايا العربية قد تعرضت لظلم شديد منذ نشأة الأمم المتحدة حتى الآن، بل إننا نعتبر القضية الفلسطينية قضية مجنياً عليها بحماية كاملة من منظمة الأمم المتحدة، ولعلنا نطرح في هذا السياق الملاحظات التالية:
أولاً: إن علاقة الدول العربية بالمنظمات العالمية والوكالات المتخصصة هي جزء من علاقات دول الجنوب أو الدول الأقل في معدلات النمو والتي ورثت بنية تحتية متهالكة ونظاماً سياسياً متخلفاً فأصبحت علاقتها بالمنظمات الدولية مرتبطة إلى حد كبير ببرامج التنمية ومواجهة المشكلات الاقتصادية التي تعاني منها، وتتميز الدول العربية أيضاً بأنها تتجاوز الموروث الثقافي إلى الموروث السياسي بكل ما ينطوي عليه من قهر واستبداد واختناق للحريات، لذلك كان طبيعياً أن تعاني الدول العربية في علاقاتها بالمنظمات الدولية من ذلك الدور المتناقض، فهي بحاجة إلى دعم سياسي لا تتمكن منه غالباً بحكم تراجعها الاقتصادي، ولو نظرنا إلى الدول القديمة العلاقة بالمنظمات الدولية مثل مصر والعراق وسورية والسعودية وبعض دول المغرب العربي فإننا سوف نجد أن مشاركتها في العمل الدولي كانت محكومة دائماً بظروفها التاريخية وأوضاعها الداخلية.
ثانياً: إن جيلي من أبناء الجنوب يتذكر جيداً دور الأمم المتحدة في تصفية الاستعمار وضرب أقنعته ومساعدة حركات التحرر الوطني على امتداد عدة عقود حتى تحررت دول في العالم العربي وأفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، ولعلنا نعتبر دور الأمم المتحدة في تصفية الاستعمار واحداً من أهم إنجازاتها لأنها انتصرت للحق والعدل وسعت نحو السلام العادل لشعوب العالم من دون تفرقة. إننا نعترف هنا أن الأمر لم يكن يسيراً في مجمله بل تميز دوماً بعمليات شد وجذب ومؤثرات لمراكز قوى دولية كانت تعاند حتى اللحظات الأخيرة في امتداد حركات التحرر الوطني والاستقلال السياسي التي بدأت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية خصوصاً مع خمسينات وستينات القرن العشرين، ولقد أسهم العرب بدور كبير في حركات التحرر الوطني خصوصاً في القارة الأفريقية لأن القياس على المشكلات العربية كان يدفع أصحابها إلى دعم الحالات والمواقف المماثلة.
ثالثاً: لا شك في أن تركيبة الأمم المتحدة منذ إنشائها لم تكن تعبيراً عن العدالة الدولية أو الديموقراطية في العلاقات المعاصرة، إذ أنها باختصار بدأت كـ «حلف للمنتصرين» أو غابة صغيرة تضم الأقوياء والضعفاء معاً، لذلك جاء تركيب مجلس الأمن معبراً عن عوار شديد حيث أعطى ميثاق الأمم المتحدة حق الفيتو للدول الخمس الكبرى من دون مساواة في هذا الشأن على رغم أن معظم تلك الدول راهن على منطق القوة لا مفهوم العدل! وقد ظل حق الفيتو مسلطاً على رقاب دول العالم مهما كان الحق في جانبها أو العدل معها فظهرت سياسة الكيل بمكيالين، ولم تعانِ شعوب من ذلك الحق العشوائي مثلما عانت شعوب الدول العربية حيث جرى استخدام الأمم المتحدة كمنبر لتمرير السياسات وتحريك المواقف بغض النظر عن الحقوق المشروعة والعدالة المفقودة، وكلما سمعنا أحاديث مكررة عن إصلاح الأمم المتحدة تأكدنا أن الإصلاح يبدو بعيداً أكثر من أي وقت مضى.
رابعاً: استأثرت القوى المنتصرة في الحرب العالمية الثانية بعملية صنع القرار في الأمم المتحدة إلى أن دخلت الصين إلى الأمم المتحدة وتمتعت بمقعد دائم في مجلس الأمن وأصبحت موسكو وبكين تشكلان محوراً يؤثر في التفرد الأميركي بالهيمنة على المنظمة الدولية، وقد استقبلت دول الجنوب انضمام الصين إلى الأمم المتحدة استقبالاً حافلاً حتى أن مندوب تنزانيا أحمد سالم رقص يومها أمام الجميع في بهو الجمعية العامة، وقد شعر الأفارقة والآسيويون واللاتين أن هناك قوة جديدة تعزز دورهم وتحمي مصالحهم، ومع ذلك أمعنت الولايات المتحدة الأميركية وحلفاؤها في إحكام السيطرة على المنظمة الدولية الأولى ومررت قرارات في مجلس الأمن أتاحت لها التدخل الأجنبي في أفغانستان والعراق وغيرهما وعندما كانت تصطدم بقوى مناوئة داخل المنظمة الدولية بصورة تعرقل أهدافها وتجهض مخططاتها فإنها كانت تسعى إلى عقد تحالفات خارج المنظمة بحيث تحقق ما تريد بـ «شرعية مصطنعة» من دون حاجة إلى الحصول على موافقة روسيا والصين أو غيرهما، ومع ذلك فإننا نؤكد أن انضمام الصين إلى الأمم المتحدة وعضويتها الدائمة في مجلس الأمن أعطت دول الجنوب عنصر توازن داخل الأمم المتحدة لم يكن متاحاً من قبل.
خامساً: إن تاريخ القضية الفلسطينية في المنظمة الدولية يستحق الدراسة والتأمل، فقد صدر قرار التقسيم عن مجلس الأمن وكان إعلان قيام الدولة العبرية من الأمم المتحدة وباعتراف دولي سريع شاركت فيه موسكو منذ اللحظات الأولى، وهي أيضاً الأمم المتحدة التي كادت أن تحيل القضية الفلسطينية برمتها إلى قضية لاجئين حيث استطاعت إسرائيل بدعم ملحوظ من الولايات المتحدة الأميركية وبعض الحلفاء الغربيين أن تضرب الشرعية الدولية في كل مناسبة وأن تعطي درجة من الغموض المطاط للقرارات المهمة في تاريخ القضية، ويكفي أن نتذكر قرار مجلس الأمن الدولي رقم 242 الصادر عام 1967 والذي اتسم بالغموض ولم تتوقف عنده إسرائيل بل مضت دائماً خارج إطار الشرعية الدولية تحاول أن تستحوذ على كل شيء فهي تريد الأرض والمياه والسلام في الوقت ذاته! ووجدت إسرائيل غطاءً أميركياً عاجلاً يحميها من كل صور الإدانة أو حتى الانتقاد لخروجها عن الشرعية. إن تاريخ العلاقة بين القضية الفلسطينية والأمم المتحدة تاريخ مؤلم فيه انحياز واضح وتواطؤ دائم وتوظيف للقرار الدولي في خدمة الاحتلال وتجنب إدانته.
سادساً: إن جامعة الدول العربية التي نشأت قبل الأمم المتحدة متأثرة بميثاق عصبة الأمم قد أعطت دائماً اهتماماً لقرارات المنظمة الدولية الأولى، وحاول كثير من الأمناء العامين فتح حوار بين الجامعة العربية والأمم المتحدة، وأظن أن عمرو موسى الأمين العام الأسبق للجامعة حاول أن يفعل شيئاً من ذلك بحكم خبرته السابقة داخل كواليس المنظمة الدولية. ولجامعة الدول العربية مكتب دائم في نيويورك للتعامل اليومي والتمثيل الديبلوماسي في أروقة المنظمة ولكن التنسيق بين المنظمتين ظل محدوداً وأصبح المكتب العربي مجرد مكتب إعلامي لا يتجاوز ذلك كثيراً، وعلى رغم أن جامعة الدولة العربية تستقبل في القاهرة الزوار والموفدين من الشخصيات الكبرى في العالم إلا أنها لم تتمكن من فرض وجودها الفاعل داخل الأمم المتحدة.
سابعاً: إن محنة التنظيم الدولي المعاصر تنعكس على كافة المنظمات الدولية عالمية كانت أو إقليمية، إذ أن القرار الدولي يفتقد إلى قوة الإلزام التي تدعمه وتحميه فضلاً عن أن منطق القوة العسكرية والاقتصادية هو الذي يسود في عالم اليوم، لذلك فإن جميع التجارب الناجحة في التنظيم الدولي المعاصر الذي بدأت إرهاصاته بالاتفاقيات الأوروبية القديمة مروراً بإنشاء الاتحاد البرلماني الدولي عام 1889 وصولاً إلى قيام عصبة الأمم وحتى التنظيمات الإقليمية التي تعمل تحت مظلة الأمم المتحدة، لم تستطع كل هذه التجارب الخروج بالتنظيم الدولي من محنته الراهنة حيث تفضل الدول المختلفة التعامل من خلال العلاقات الثنائية الفوقية بدلاً من العلاقات المتعددة الأطراف تحت مظلة دولية، ولا نكاد نعرف حالياً تجارب ناجحة لتنظيم دولي معاصر باستثناء الاتحاد الأوروبي وربما الاتحاد الأفريقي أيضاً في بعض أدواره الحديثة. إننا أمام محنة حقيقية للتنظيم الدولي المعاصر الذي لا تزال قاعدته القانونية قاصرة عن الوفاء باحتياجات التطبيق الملزم للقرارات الدولية ومواجهة الخروج عن الشرعية عند اللزوم.
إن علاقة العرب بالمنظمات الدولية خصوصاً الأمم المتحدة هي علاقة تتميز صعوداً وهبوطاً بقدر كبير من التذبذب ولكنها في مجملها لم تكن علاقات تصب في مصلحة العرب الذين دفعوا الثمن غالياً في كافة المراحل. إن تاريخ علاقة العرب بالأمم المتحدة تاريخ لا يعكس نجاحاً بقدر ما يعكس درجة عالية من التردد والشد والجذب، وفي النهاية فإن العرب هم الذين يدفعون الثمن قبل غيرهم!
د. مصطفي الفقي;
جريدة الحياة
تاريخ النشر: 7 مارس 2016
رابط المقالة: http://www.alhayat.com/article/840415/شباب/العرب-والمنظمات-الدولية