دعنا نعترف بداية بأن ما يمكن أن نطلق عليه «ثقافة الحوار القومي» تراجع في شكل ملحوظ في العقود الأخيرة، رغم تزايد التحديات التي تواجه العرب وتكاد تعصف بالبقية الباقية من شعورهم العربي وانتمائهم القومي. ولا أستطيع أن أقول أبداً أننا نعيش عصر «الربيع العربي» بما تدل عليه الكلمة، ولكنها تسمية أطلقناها على الانتفاضات الشعبية التي أطاحت نظم حكم بالية لكنها فتحت باباً واسعاً للاضطرابات في دول عربية كثيرة على حساب البرامج الإصلاحية المنتظرة. ولذلك جاءت تسمية «الربيع العربي» على غرار «ربيع براغ» في العام 1968 لتعطي انطباعاً ليس دقيقاً عن مسار الأحداث في المنطقة العربية، ذلك أن ما حصل منذ العام 2011 لم يكن تعبيراً قومياً بقدر ما كان انعكاساً لمعاناة قطرية، فالجماهير التي خرجت إلى الميادين والشوارع في العواصم العربية كانت مدفوعة برغبتها في التغيير في مواجهة أنظمة شاخت وترهلت وانتهى عمرها الافتراضي، فضلاً عن شيوع الفساد وسطوة الاستبداد.
خرجت الجماهير في مصر، على سبيل المثل، ترفع شعارات المطالبة بالحرية ورغيف العيش والعدالة الاجتماعية، بعدما أرهقت شبابها ضغوط البطالة وانتشار المحاباة والمحسوبية. واللافت أن شعارات «الربيع العربي» جاءت في معظمها خالية من بنود السياسة الخارجية، ولم تركز على القضية العربية الأولى، وهي «القضية الفلسطينية»، ولم نسمع شعارات صاخبة معادية لإسرائيل باستثناء حادث واحد عندما قام الشباب المصري بنزع علم إسرائيل من فوق سفارتها في القاهرة ومحاولة اقتحامها في شكل غير مسبوق منذ «اتفاقية السلام» بين البلدين في العام 1979. وأدى خلو شعارات «الربيع العربي» من الإشارات الواضحة إلى الصراع العربي - الإسرائيلي إلى إعطاء إيحاءٍ عامٍ بأن المضمون القومي لتلك الأحداث لم يكن على المستوى الذي يتوقعه «القوميون» في أنحاء الوطن العربي. صحيح أن الجماهير المصرية الثائرة لم ترفع إلا صورة زعيم واحد هو جمال عبدالناصر، لكن ذلك جاء في سياق دوره التاريخي في السعي نحو تحقيق العدالة الاجتماعية، ولم يكن انطلاقاً من دوره التاريخي أيضاً في التعامل مع الصراع العربي - الإسرائيلي والدفاع عن القضية الفلسطينية.
خلاصة القول اننا نريد أن نقول إن «الحوار القومي» كان غائباً في السنوات الأخيرة وربما حل محله «الحوار الديني»، فقد انشغل الجميع بتأثيرات «الإسلام السياسي» خصماً من التوجه العروبي بكل ما يحمله من إيحاءات ودلالات، والآن دعنا نبحث في أسباب تراجع «ثقافة الحوار القومي» وما آلت إليه بعد التغييرات العنيفة على الساحة العربية في السنوات الماضية، ونوجزها في ما يلي:
أولاً: تراجعت ثقافة الحوار عموماً في حياتنا العربية، وشاع التعصب وأصبح الانحياز إلى الرأي ورفض خيارات الآخر نمطاً سائداً في العلاقات بين الدول، بل وبين الأفراد. وانتشر إحساس عام بـ «الشوفينية القطرية» وإحساس كل دولة بأنها حالة خاصة ليس لها نظير بين أقرانها، فتتسابق الدول العربية في مجال إثبات الذات والمقارنة بالدول الشقيقة والمضي في طريق المباهاة بعلاقاتها الدولية وربما يكون ذلك على حساب أوضاعها الإقليمية، فنحن العرب لا نعرف ثقافة الحوار القومي ولا نؤمن بفلسفة الاختلاف مع الاحترام المتبادل والرؤية الشاملة، ولم تعد لدينا تقريباً مساحة للتسامح أو حتى احترام الندية.
ثانياً: اقترن تراجع المد القومي الذي بدا واضحاً في خمسينات وستينات القرن الماضي بسقوط المشروع العربي مع تنامي الدور الأميركي في المنطقة وتزايد غطرسة إسرائيل ووضوح حال الانقسام والتشرذم في العالم العربي على نحو غير مسبوق، إذ سادت المنطقة مشاريع سياسية أجنبية وتحالفات لا تدعو إلى الارتياح وأصبحت القضايا القومية محل اهتمام ثانوي وبرزت المشاكل المحلية لتفرض نفسها في شدة بديلاً عن غيرها. إننا نتذكر فترة الحلم العربي الذي توهم دعاته أن العاطفة وحدها تكفي وأن الشعارات يمكن أن تكون غذاءً يومياً للعروبة، بينما الأمر يختلف عن ذلك اختلافاً بيناً، إذ إن غياب الإرادة العربية والرؤية القومية حرم العمل العربي المشترك من قوة الدفع الطبيعية لأكثر من عشرين دولة عربية قبلت أن تقف عند الحد الأدنى من دون طموحات في المستقبل تشكل لها رؤية كاشفة تحدد المسار.
ثالثاً: لابد من أن نعترف بأن الإسلام السياسي وتصدره للمشهد العربي في العقود الأخيرة أثرا تأثيراً سلبياً في كل المحاولات الجادة للحوار القومي، وكأنما استبدل العرب بـ «العروبة التاريخية» قومية إسلامية جديدة من منظور ديني لا يتحمس لمفهوم الدولة المدنية الحديثة، بل ويطرح فكراً سلفياً مغلوطاً يكاد يكون معادياً لروح العصر مختلفاً مع مفرداته الجديدة. إننا مع وجود الدين في حياة المجتمع لأن فيه دعوة إلى الفضيلة وتحذيراً من النواقص الأخلاقية، لكننا نرفض وفي شدة تدخل الدين في الحياة السياسية لأن الدين نقي نقاء المياه بينما السياسة لزجة لزوجة الزيت، وما عرفنا نموذجاً للتداخل بين الدين والحكم إلا واكتشفنا أن الدين هو الخاسر وهو الذي يدفع «فاتورة» أخطاء من يرفعون شعاراته بالكذب ويسيئون إليه في أعين غير المسلمين مثلما حدث في السنوات الأخيرة، حين أصبح الإسلام والمسلمون محل مطاردة في كثير من الدول نتيجة العجز عن فهم الإسلام الصحيح وتسامحه الحقيقي، فضلاً عن قيام كثير من المسلمين بممارسة العنف ضد الآخرين وترويع الأفراد وتهديد استقرار المجتمعات. وثار جدل متواصل بين من يعتقدون بأن العروبة هي التي حملت الإسلام إلى الدول التي دخلها وبين فريق على الجانب الآخر يرى أن الإسلام هو الذي حمل العروبة، بدليل أن هناك دولاً إسلامية كبرى تمسكت بثقافتها التاريخية ولغتها الأصلية وفرقت بوضوح بين الإسلام كديانة وقوميتها كهوية.
رابعاً: دعنا نعترف بشجاعة بأن سياسات «كامب ديفيد» وتوقيع اتفاقيات السلام مع إسرائيل قد أثرت في مجملها - بغض النظر عن تقويمنا لها والملابسات التي أحاطت بها -تأثيراً سلبياً في مسرح الأحداث العربية، بل وقسمت العالم العربي لسنوات عدة ومارست تأثيراً سلبياً في المنطقة. ولقد استثمرت إسرائيل ذلك بأساليبها المعروفة وتأثيرها في المستقبل العربي، باعتبارها دولة عنصرية عدوانية توسعية لا تفي بوعودها ولا تحترم التزاماتها وتلقي بالشرعية الدولية جانباً ما دامت أقدامها ثابتة على الأرض.
خامساً: إن الخلافات العربية - العربية أثرت تأثيراً سلبياً في محصلة العمل العربي المشترك، ثارت مشاكل الحدود بين الدول المتجاورة مثلما هو الأمر بين الجزائر والمغرب وبين مصر والسودان وبين السعودية واليمن، والأمثلة كثيرة، فضلاً عن مواقف متباينة أدت أحياناً إلى أن يغرد طرف عربي خارج السرب. وتمثل دولة قطر الشقيقة نموذجاً لذلك بامتياز.
سادساً: اختفاء الزعامات العربية المؤثرة بما لها وما عليها فضلاً عن تراجع بعض الحركات الثورية ذات الطابع القومي مثل حركة «القوميين العرب» و «الوحدويين الاشتراكيين» و «حزب البعث العربي الاشتراكي»، أثر في مجمله على ساحة العمل القومي، إذ اختفت الزعامات العربية الكبيرة وتقزمت أدوار بعضهم ولم يعد العرب هم أولئك الذين كنا نتحدث عنهم في سنوات الصحوة العربية والمد القومي والحلم العربي. ولا شك في أن الزعامات العربية الكبيرة كان لها عائدها الإيجابي ومردودها السلبي أيضاً، لكنها كانت تجسد في النهاية نوعاً من اليقظة العربية والصحوة القومية التي قد لا نشهد عودة إليها في القريب المنظور.
سابعاً: الدور الذي لعبته دول الجوار، خصوصاً إيران وتركيا وإسرائيل، في تشتيت القوى العربية والنيل من مكانة الفكر القومي هو دور يضاف إلى الأدوار السلبية التي عرفتها المنطقة العربية، فالدولة «الفارسية» تفرغت لتصدير الثورة تحت شعارات دينية وعبرت عن أطماعها المفتوحة في دول الخليج وسورية ولبنان فضلاً عن وجود «أجندة» واسعة تمضي بها لاحتواء دول المنطقة وابتلاع قدراتها والعبث بمقدراتها. أما الدولة التركية، فقد استيقظت أخيراً في ظل حكم الأحزاب الإسلامية لتعبث هي الأخرى بخريطة المنطقة وتسعى إلى استعادة أمجاد «عثمانية» طواها التاريخ وعفّى عليها الزمن. ويوحي المشهد في الشرق الأوسط على امتداد غرب آسيا وشمال أفريقيا برغبة الدول غير العربية الثلاث، مع التفاوت بين أدوارها ودرجات خطورتها، في تقسيم العالم العربي والتهام بعض أقطاره، ولنتذكر ما قاله الإيرانيون رسمياً يوم أن ظهر المد الحوثي في اليمن عندما أعلن ناطق رسمي أن عاصمة عربية رابعة تسقط في أحضان الفرس، وهي مقولة كاشفة أطماعاً كامنة ورؤى دفينة.
ذلك هو طواف سريع يصب في النهاية في خانة غياب ثقافة الحوار القومي وتدني أسلوب التعامل بين الأشقاء ودخول الأجندات الأجنبية على الخط في شكل ملحوظ، فهل يصحو العرب قبل فوات الأوان؟ وهل نحترم ثقافة الحوار بيننا ونقبل تفاوت السرعات القومية بين دولنا؟
د. مصطفي الفقي;
جريدة الحياة
تاريخ النشر: 14 يونيو 2016
رابط المقالة: http://www.alhayat.com/article/819842/شباب/ثقافة-الحوار-القومي