أكره الملابس الضَّيِّقة عمومًا، ولكنَّ الحذاء الضَّيِّق هو الكارثة الحقيقية، فقد يكون القميص ضيِّقًا فيُمكن تحمُّله بعض الوقت، أو تكون «البدلة» ضيقة فنفتح أزرارها، ويُمكن تحمُّلها بعض الوقت أيضًا، أمَّا الحذاء الضَّيِّق فهو المأساة بعينها، وأتذكَّر أننى ذات صباح قد لبستُ حذاءً جديدًا لم أكن قد جرَّبته من قبل، وخرجت إلى عمل شاق ويوم طويل فى مؤسسة الرئاسة، وكان ذلك فى ثمانينات القرن الماضى، وبعد نصف ساعة تقريبًا شعرتُ أننى أكاد يُغمى علىَّ من الشعور بالاحتقان فى القدم، وعبثًا حاولتُ ترويض الحذاء وفكَّ أربطته تمامًا، ولكنَّ الضغط على أصابع القدم كان شيئًا يفوق الخيال، ولم أعد قادرًا على المشى، أو حتى على التفكير، وانقلبت شخصيتى إلى حالة من البؤس والتوتُّر الشديدين، حتى إننى انفعلتُ على السائق دون مُبرِّر، وكدتُ أطرده من عمله بلا سبب، فالآلام مُبرحة، وقدمى تؤلمنى بشدَّة، وليس أمامى من حل إلا أن أخلع الحذاء وأمشى حافيًا، وهو أمر غير ممكن فى ظروف عمل ذلك اليوم، وما إن انتهيتُ من الجزء الأول من تكليفات ذلك الصباح حتى قفزت فى السيارة، وطلبتُ من السائق الاتِّجاه إلى أى محل لبيع الأحذية فى «ميدان صلاح الدين» قريبًا من مقر عملى فى «مصر الجديدة»، وهناك خلعتُ الحذاء بسُرعة، وبدأتُ أستردُّ أنفاسى، وأصبحتُ قادرًا على التفكير الصحيح، وقد قال لى البائع إن مقاس قدمى هو (43 عريض)، فقُلتُ له: بل أريده (44 عريض)، لأن الحذاء الذى كنتُ أرتديه كان (43) وليست فيه خاصية العرض الزائد، وما إن لبستُ الحذاء الجديد وكانت آثار الآلام مازالت موجودة، فطلبتُ من البائع حذاءً أكبر فاندهش، ولكننى قُلتُ له لا يهمُّنى أن يرى الناس حذائى كبيرًا، ولكن الذى يهمُّنى هو أن أشعر أنا بأن حذائى مُريح بعد تجربة المعاناة فى الساعات الماضية، وقد استجاب البائع ضاحكًا، ولكننى قُلتُ له: لا داعى للسُّخرية، فالأمريكيون يلبسون أحذيتهم بمقاس يعلو درجتين عن مقاسهم الطبيعى، وذلك تحسُّبًا للمُعاناة، وتخوُّفًا من قلَّة التهوية وكتمان القدم فى قالب ضيِّق يُؤدِّى أحيانًا إلى مُضاعفات لا مبرر لها، وقد كانت مُصالحتى للسائق الذى نهرته فى ذلك اليوم دون مبرر أن أعطيته حذائى الضَّيِّق جديدًا كما هو، وقد أبدى سائقى سعادة كبيرة وارتداه ليجده مناسبًا لحجم قدمه، بل يزيد قليلًا، وعندما عُدتُ إلى مقر الرئاسة بعد نصف ساعة تقريبًا تساءل زملائى عن التَّحوُّل الذى طرأ على شخصيتى وجعلها طبيعية مرحة بخلاف ما كان عليه الأمر طيلة ساعات الصباح، فانبرى كل واحد منهم يحكى قصته مع حذاء له والمُعاناة غير المطلوبة فى تلك الظروف، واتَّفقنا جميعًا على أن الحذاء المُريح هو أهم ما يُمكن أن يرتديه الشخص فى أى وقت، بل أضاف أحد الشخصيات الهامة ممن عرفوا قصتى قائلاً إنه قد تعرَّض لذلك فى ظروف أسوأ للغاية عندما ارتدى حذاءً جديدًا يوم سفره إلى «الولايات المتحدة الأمريكية» لمباحثات مع صندوق النقد الدولى، وازدادت عليه الآلام فى الطائرة، وضغط الحذاء الجديد على قدمه إلى حدٍّ كاد يُصيبه بالجنون، فخلع الحذاء فى رحلة الطائرة، وتعذَّر عليه ارتداؤه فى نهايتها، لأن القدم يتضخم حجمها أثناء رحلات الطيران، وما إن وصل المسئول الكبير إلى المحطة الأولى فى «نيويورك» إلا وطلب أخذه فورًا إلى أقرب محل أحذية، حيث ألقى بحذائه فى سلَّة المهملات وهو جديد، وارتدى حذاءً آخرَ فيه سعةٌ من الحجم وليونة فى الجلد، كذلك فإننى أُحذِّر كل من أعرف من ارتداء حذاء جديد فى يوم ملىء بالمشغوليات والالتزامات، خصوصًا إذا كان المرء على سفر، فيُصبح الأمر كارثيًّا مثلما جرى مع المسئول الكبير عبر رحلة طويلة داخل الطائرة من «القاهرة» إلى «نيويورك»، ولنا أن نتخيَّل حجم المُعاناة التى شعر بها فى ذلك اليوم الصعب كى يُضيف إلى أعبائه الوظيفية عبئًا جسديًّا لم يكن يتوقعه، لذلك فإن الأمر يقتضى أن يرتدى الشخص أوسع أحذيته وأكثرها مرونة عندما تكون أمامه مهام جديدة، وعليه أن يجرب حذاءه الجديد فى أوقات عادية تسمح له بتغييره إذا لزم الأمر.
إننى أحكى هذه الوقائع وقد خبرت الحياة بعشرات الأمثلة، وأطلب من أبنائنا أن يُدركوا المثل القائل (كُلْ ما يُعجبك، ولكن ارتدى ما يُعجب الناس) ليس صحيحًا على إطلاقه، ففى الأحذية خصوصًا على الإنسان أن يرتدى الحذاء الذى يُريحه مهما كلَّفه ذلك من مشقَّة أو تضحية.. وقانا الله وإيَّاكم شرَّ الأحذية الضَّيِّقة، وأعطانا بديلًا عنها خيرًا تلك الصدور الواسعة التى تحتمل الآخر واختيار الغير ولا تتعصَّب لرأى ولا تتشنَّج من أجل موقف.
د. مصطفى الفقى;
مجلة 7 أيام العدد 280
تاريخ النشر: 29 مايو 2018
رابط المقالة: https://www.7-ayam.com/%d8%a7%d9%84%d8%ad%d8%b0%d8%a7%d8%a1-%d8%a7%d9%84%d8%b6%d9%91%d9%8e%d9%8a%d9%91%d9%90%d9%82/