يبدو الدور الصيني في عالم اليوم مستأثراً بقدر كبير من الاهتمام الدولي لأن «التنين الأصفر» بدأ يغزو أسواق العالم بدءاً من الولايات المتحدة، وصولاً إلى أصغر دولة أفريقية، ليظهر الحديث المتكرر عن أخطار سياسة الإغراق التي تتبعها دولة الصين بحجمها الضخم وإمكاناتها الكبيرة وصناعاتها المتطورة وقدرتها على غزو الدول من دون حروب أو أسلحة، اعتماداً على إنتاجها الهائل وأسعارها غير القابلة للمنافسة. واستأثرت القارة الأفريقية باهتمام خاص من جانب حكومات بكين، وما زلت أتذكر من زيارة لتنزانيا في العام 1970 كيف كان الوجود الصيني مؤثراً ومتغلغلاً في جوانب حياة تلك الدولة الأفريقية التي يمكن القياس عليها لدول كثيرة أخرى في شرق القارة وغربها. وكانت الميزة التي تمتع بها الصينيون دائماً هي إبعادهم التأثير السياسي من النشاط الاقتصادي، فلم تكن هناك شبهة تؤدي إلى مخاوف من جانب الدول الصغيرة التي عانت طويلاً من الاستعمار الغربي والسيطرة الأجنبية وأصبحت شديدة الحساسية تجاه أطماع الدول الكبرى وتدخلها في شؤونها. وإذا كان ثلثا العرب يعيشون في أفريقيا فهم غير بعيدين من الوجود الصيني، بينما المشرق العربي يشترك مع تلك الدولة الكبرى في القارة الآسيوية.
ويبدو أمر الصينيين عجيباً أحياناً، فلقد سألت مسؤولاً صينياً ذات يوم: هل تتطلعون إلى قيادة العالم في مرحلة تالية ترث فيها الصين الدور العالمي القيادي إذا أفل نجم الولايات المتحدة الأميركية؟ وبدا الرجل أمامي كمن لدغه عقرب ورد على الفور: ليس في أطماعنا على الإطلاق قيادة المجتمع الدولي، إذ إن أكثر ما نطمح إليه هو دور نلعبه من أجل استقرار العالم المعاصر، خصوصاً في دول الجوار الآسيوي. والواقع أن المسؤول الصيني الذي قال ذلك كان يعبر عن شعور حقيقي لدى المسؤولين في بكين، فهم يدركون أن للزعامة الدولية تبعات كبيرة وتكاليف مالية وعسكرية، فالدور الأميركي مثلاً يؤدي إلى إنفاق أرقام هائلة على الأحلاف السياسية والمغامرات العسكرية مع دفع ثمن السيطرة على المنظمات الدولية، وهو أمر لا يفكر فيه الصينيون الذين يؤمنون بأن الانفتاح الاقتصادي لا بد من أن يسبق الانفتاح السياسي، وأنه لا حديث عن الحريات وحقوق الإنسان إلا في ظل مجتمع الوفرة لبليون ونصف البليون من سكان ذلك البلد الضخم، وما زلت أتذكر أن مسؤولاً كبيراً من دولة عربية كان في زيارة رسمية إلى بكين ورأى متطوعاً أن ينقل رسالة من واشنطن إلى القادة الصينيين تدور حول «حقوق الإنسان» وأهميتها في ذلك البلد الضخم، خصوصاً أن ذلك قد جرى في أعقاب الأحداث الدامية في «الميدان السماوي» في العاصمة الصينية، وكان ردهم مفزعاً. قالوا له: قل لأصدقائك في واشنطن أن يكفوا عن هذا الطنين الذي لا مبرر له، لأن الأوضاع إذا اضطربت في الصين، فقد يؤدي ذلك إلى تحريك مئتين أو ثلاثمئة مليون لاجئ خارج الحدود وقد يحركون القارة الآسيوية كلها ويصلون إلى أوروبا، قل لهم دعوا الصينيين وشأنهم فهم أعرف بمصلحة بلدهم! وواقع الأمر أن العلاقات الصينية - العربية كانت دائماً متوازنة ومرعية من الجانبين، ولم نسمع عن أزمة حادة بين بكين وإحدى الدول العربية، لذلك فإننا معنيون، بعد أن رصدنا ملامح العلاقات العربية - الهندية، بأن نتناول العلاقات العربية - الصينية في رصد موضوعي يدور حول النقاط التالية:
أولاً: تضرب العلاقات العربية - الصينية بجذورها في أعماق التاريخ السحيق، فلقد ضرب العرب بها مثالاً للبلاد البعيدة ولكنها معروفة لديهم، فقال نبي الإسلام: أطلبوا العلم ولو في الصين، إذ اكتشف العرب مشقة السفر براً وبحراً إلى تلك البلاد التي يسمعون عن حضارتها، ولكنهم بعيدون منها في الوقت ذاته، ولقد بدأت قوافل التجارة تنشط في العصور الوسطى بين السواحل البحرية للجزيرة العربية ومنطقة الخليج وبين دول الشرق الأقصى وفي مقدمها الصين بمنتجاتها المعروفة ومنسوجاتها ذائعة الصيت، مع أن تلك البلاد الكبيرة كانت في بعض مراحل تطورها غارقةً في الجهل والظلام على رغم تاريخها العريق وحضارتها النهرية القديمة.
ثانياً: سلك التجار من غرب آسيا وبعض بقاع أوروبا طريقاً للتجارة يمر بـ «الخريطة العربية» في الطريق إلى بلاد الشرق الأقصى طلباً لتوابل الهند وحرير الصين، ولذلك سمي الطريق إلى الشرق بـ «طريق الحرير»، وظلت العلاقات التجارية تحمل معها بعض مظاهر الحضارة العربية الإسلامية فوصل الإسلام كما وصلت من قبله المسيحية إلى عدد من دول الشرق البعيد، وذلك يفسر وجود أقليات من ديانات «أهل الكتاب» في بلاد الديانات الأرضية، بما حمله ذلك من صدام ظهرت آثاره في السنوات الأخيرة بسبب التطرف الديني والتركيز على الخلافات التي ترتبط بالعقائد الروحية، السماوية أو الأرضية، الإلهية أو الوثنية.
ثالثاً: استيقظ العالم بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية على عمليات إعادة ترتيب الأوضاع الدولية والإقليمية وفقاً لنتائج تلك الحرب، وعندما بدأ «الزحف العظيم» بقيادة ماو تسي تونغ ودخلت الصين مرحلة التطبيق «الماركسي الماوي» واستطاعت أن تستقطب أعداداً من الشباب العربي ممن اعتنقوا أفكاراً ثورية ويسارية فكانوا على يسار التطبيق السوفياتي وأكثر قرباً من النظام الشيوعي الصيني. وكانت لذلك دلالات على جاذبية خاصة للفكر الصيني لدى بعض الشباب العربي على أرضية شرقية بالدرجة الأولى، خصوصاً منذ صحا العالم على انتصار أمة شرقية خالصة هي اليابان على روسيا القيصرية في العام 1905، وشعر العرب دائماً أن النظام الشيوعي الصيني يتعاطف مع قضاياهم داعماً الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني.
رابعاً: لقد تمكن الصينيون من إحداث معجزة كبرى في بلادهم وأصبحت الصناعات الصينية قاسماً مشتركاً في كل أسواق العالم، كما أصبح اهتمامهم بالتجارة الدولية أمراً يسبق غيره من الاهتمامات وحظي العرب دائماً بأولوية في التفكير الاقتصادي الصيني، خصوصاً أن النفط سلعة أساسية يحتاج إليها الجميع، وبينما كان الموقف الصيني داعماً على الدوام للقضية الفلسطينية إلا أن علاقتهم مع إسرائيل قد تطورت كثيراً في العقود الأخيرة حتى أمضى رئيس وزراء الصين قبل سنوات قرابة خمسة أيام في زيارة رسمية للدولة العبرية، في مؤشر على تحول سياسي تجاه القضية يشبه إلى حد كبير ذلك التحول الذي حدث في السياسة الخارجية الهندية أيضاً. وبدأت دول كثيرة تعاني أخيراً من سياسة الإغراق الصينية في تصدير السلع بصورة غير تنافسية، ما أزعج كثيراً من الدوائر الصناعية ومراكز التجارة في العالم الغربي.
خامساً: تلعب قضايا المياه والطاقة والبيئة وتغير المناخ دوراً حاكماً في العلاقات بين الدول وتجعل من «المعونة الفنية» أداةً لفتح الأبواب بين الدولة الصينية ودول أخرى، فما أكثر العواصم التي نجد أن الصينيين قد شيدوا فيها مبنى ضخماً للمؤتمرات تحت مسمى «الصداقة» التي تستهوي كل من يسعى إليها دولاً وقيادات. إن الصين أصبحت حاضراً مؤثراً في الأسواق العربية ولا عجب فقد اجتاحت أيضاً الأسواق الأميركية والأوروبية!
إن علينا نحن العرب أن نتواصل في شكلٍ متوازٍ مع القوى الكبرى في العالم، إذ إن الغرب ليس هو كل شيء، كما أن «التحديث» لا يرتبط دائماً بـ «التغريب» فهناك تجارب كبرى في العالم المعاصر يجب أن نأخذ منها ونستفيد، خصوصاً إذا كانت بريئة من الأغراض السياسية والأهداف الخفية. إن الاتجاه شرقاً أمر مطلوب ويكفي أن نتأمل الغرب ذاته وهو يسعى نحو القوى الشرقية والأمم الآسيوية اعترافاً بوزنها وإدراكاً لأهميتها في مستقبل العلاقات الدولية، اقتصادية وسياسية، خصوصاً مع شيوع «فلسفة العولمة» التي من المفترض أنها فتحت الأبواب أمام حركة السلع وانسياب الاستثمارات وانتقال الأفكار، فالقرية الكونية الواحدة تدفعنا إلى طرق كل الأبواب من دون الوقوف أمام أصنام الماضي. وأنا واثق بأن الجامعة العربية في ظل أمينها العام الجديد ستفتح آفاقاً واعدة في علاقات رحبة بين العرب والصين على المستويات الرسمية والشعبية مع وضع العامل الثقافي في المقدم لأن العلوم والآداب والفنون هي رسل مباشرة في العلاقات الدولية.
د. مصطفي الفقي;
جريدة الحياة
تاريخ النشر: 19 سبتمبر 2016
رابط المقالة: http://www.alhayat.com/article/827683/شباب/العرب-والصين-صداقة-من-بعد