قال بعضهم إن العرب ظاهرة صوتية، وتطاول آخرون عليهم فاعتبروهم عِبئاً على العصر وحضارته لأنهم أمة مستهلكة وليست منتجة، وهي كلّها عبارات بائسة تؤدي إلى مزيد من الإحباط والاستسلام للواقع بكل ما فيه من عوار، بينما نهضة الأمم وصحوة الشعوب تعتمدان على ركيزتين هما «الإرادة» و «الرؤية»، فإذا توافرت للعرب «إرادة» حقيقية وتصميم مؤكد على الدخول في عالم مختلف، فإننا نكون تقدّمنا خطوات إصلاحية مدروسة، فكل شيء يبدأ بالإرادة، والتي هي قرار عقلي ينبع من العقل الجمعي لشعوب الدول العربية. و»الإرادة» لا تتولد إلا بصحوة ذاتية تبدأ بالاعتراف بالواقع والتسليم بالأخطاء والخروج من أسر الماضي للتطلع نحو المستقبل. أما «الرؤية» فهي المضمون الحقيقي للتغيير، وقاطرة التطور التي تتشكل عبر الأجيال من خلال الخبرة التاريخية وتراكم الأزمات والانتقال من مرحلة إلى أخرى، بحيث نجد أنفسنا في النهاية أمام منظور مختلف يستوعب التطورات الدولية والإقليمية ويتمكّن من تحديد الخطوط العريضة للمستقبل. وقد تراكمت علينا نحن العرب في العقود الأخيرة أخطاء متتالية بلغت حد الخطيئة نتيجة غياب الرؤية، وقد دفعني ذلك في مطلع تسعينات القرن الماضي، إلى إصدار كتابي «الرؤية الغائبة» لأنني أدركت، مثل غيري، أننا نفكر بأسلوبٍ مجتزأ ولا نملك النظرة الشاملة ولا الرؤية المتكاملة، فتكون النتيجة أننا مشتتون نخرج من نكبة إلى نكسة ثم إلى مأساة ولا نتعلم من أخطائنا ولا نستوعب نقاط الضعف لدينا، كما أننا قد نستغرق أحياناً في التفاصيل التي تصرفنا عن أمهات الأمور. فعندما غابت الرؤية سقطت البوصلة وفقدنا القدرة على تحديد التوجه الصحيح والاتجاه السليم. ولا أريد أن أستغرق في «جلد الذات»، لكنني أتطلع إلى رؤية عصرية تحتوي كل المتغيرات التي استجدت وتستوعب التجارب كافة التي طرحت، خصوصاً أننا وقعنا كثيراً في مشاكل مكررة وأزمات تعود إلينا مرة ثانية بسياقها نفسه أحيانًا. ألم يُضرب سلاحنا الجوي على الأرض مرتين في عامَي 1956 و1967؟ إن ذلك يعني على الأقل أننا لسنا مؤمنين، فالمؤمن لا يلدغ من جحر مرتين! ما أسهل «جلد الذات» وتوجيه اللوم إلى النفس حتى تصل إلى حد الإحباط، لكن يبقى أمامنا واقع مؤلم يطل علينا صباح مساء ولا يغادرنا إلا كي يعود إلينا، وإذا كنا نتطلع إلى تعافي العرب بنظامهم الإقليمي وعملهم المشترك فإننا نطرح المحاور التالية:
أولاً: لقد تحدث غيرنا عنا بقولهم أن العرب أمة ماضوية تعيش على التغني بالأمجاد وترديد الشعارات الحماسية والاعتماد على رصيد عصور الازدهار العربي الإسلامي. وذلك أمر لا يخدم طبيعة التطور ولا اتجاهات العصر، بل يبدو أحياناً مبرراً للتواكل والتكاسل والاستسلام للظروف كما هي، خصوصاً أن العقل العربي يعشش فيه دائماً تفكير يدور حول «نظرية المؤامرة» حتى أن كثراً من المسؤولين العرب فضلاً عن أجهزة الإعلام، يفسرون الإحباطات المتوالية والإخفاقات المتكررة وفقاً لمنطق «التفسير التآمري للتاريخ». ولا شك في أن العقلية العربية مسؤولة عن ذلك إلى حد كبير بطريقة تفكيرها المشدودة إلى الماضي والبعيدة من روح العصر. إنها تبدو مسؤولة عن حال التردي التي يشهدها الواقع العربي الراهن.
ثانياً: يمتلك العرب نظرية إسلامية للشورى، لكنهم عاجزون عن الأخذ بها لأسباب يطول شرحها، وهم في الوقت ذاته لا يأخذون بأساليب الديموقراطية الغربية الحديثة! فهم يتأرجحون بين نظرية يملكونها لكن يصعب تطبيقها، وبين نظرية عصرية قد لا يتحمسون لها ولا يرون فيها إلا نمطاً للفكر المستورد الذي يجافي طبيعة الشخصية العربية غير المتحمسة للتطبيق الديموقراطي الغربي، حتى رأينا أنظمة كثيرة في التاريخ العربي الحديث تأخذ من الديموقراطية الغربية شكلاً خارجياً يبدو مثل «ديكور» يخلو من الجوهر الحقيقي والمضمون الصحيح. وقد كانت لي مساجلات دائمة مع أستاذي المشرف على أطروحتي للدكتوراه في جامعة لندن، وكان هو أستاذ العلوم السياسية الشهير بانايوتيس فاتيكيوتس، فقد كان دائماً يردد في حديثه معي مقولة مؤداها أن «الإسلام هو المسؤول عن ضعف المشاركة السياسية وغياب الديموقراطية في العالمين العربي والإسلامي». وكان يضرب لي مثلاً يقارن فيه بين الهند وباكستان، ويعزو استقرار نظام الحكم في الهند واضطرابه في باكستان وغياب الديموقراطية الصحيحة في معظم سنوات عمر الدولة الباكستانية، إلى الاختلاف بين الدولة المسلمة في باكستان والدولة الهندوسية في الهند. وكنت أدهش لهذا المنطق وأحاور أستاذي كثيراً في النصف الأول من سبعينات القرن الماضي، وأضرب له أمثلة بدول إسلامية قبلت الديموقراطية الغربية ومضت على طريقها من دون تردد، لكن عالم السياسة الراحل كان يؤكد لي أن العرب يأخذون الديموقراطية الغربية كمصدر موقت للشرعية ثم يخرجون عليها كل الوقت، بل ويتحول الزعيم المنتخب إلى ديكتاتور حقيقي في أقصر وقت.
ثالثاً: يعاني العرب من حلمٍ دائمٍ بالوحدة كاد يتحول إلى وهم بفعل التغير الذي طرأ على أولويات كل دولة عربية على حدة، فأصبح الصراع بين القطرية والقومية مظهراً من مظاهر حالة «التشرذم» و «التجزئة» التي تعانيها الخريطة السياسية العربية. وظهرت «نعرات شعوبية» تتحدث عن تراث ثقافي محلي تعتبره خصماً من التيار العروبي لبعض الأقطار العربية، فأصبحنا نواجه أجندات سياسية لبعض النظم العربية تبدو متعارضة مع المصالح العليا للأمة العربية ودوريها الإقليمي والدولي.
رابعاً: هناك جدال تاريخي يثور بين حين وآخر يدور حول التساؤل: من هو السبب وما هي النتيجة؟ هل الإسلام هو الذي حمل العروبة إلى أقطارها أم أن العروبة هي التي نشرت الإسلام واحتضنت دعوة نبيه العربي حتى نزل القرآن بلسان عربي مبين؟ بينما تشير دراسات موضوعية كثيرة إلى أن الإسلام هو الذي حمل العروبة وليس العكس، بدليل أن هناك دولاً إسلامية غير عربية قبلت الإسلام ديناً ولكنها رفضت العربية لساناً وثقافة وسلوكاً، حتى أصبح معظم العرب مسلمين بينما لا نستطيع القول إن معظم المسلمين عرب. فالتطابق بين الإسلام والعروبة يشغل حيزاً في التراث العربي، لكنه لا يدعو إلى صدام بينهما بل نراهما متكاملين في تحديد الهوية العربية الإسلامية وتنظيم العلاقة بين السياسات القطرية والتوجهات العروبية.
خامساً: لا ينكر أحد أن الدول العربية تعيش تحت طائلة ضغوط شديدة خارجية وداخلية، وهي ضغوط تسحب منها دورها الإقليمي وقدرتها على تجديد حيوية نظمها السياسية. ولا يقف الأمر عند حدود الضغوط الأجنبية، لكنه يتجاوز ذلك إلى الأجندات الموازية التي تكون إحدى القوى الكبرى طرفها الآخر.
سادساً: من أبرز مظاهر التخلف السياسي العربي، الإحساس المبالغ فيه بالخصوصية ورفض الاندماج أحياناً في الأساليب العصرية للحياة السياسية. وما زال العرب يراوحون مكانهم حتى الآن، لذلك نبتت في البيئة العربية مظاهر «الإرهاب» التي جرى ربطها به، حتى ولو كان ذلك ظلماً وافتراء، وأضحت أصابع الاتهام تشير إلينا بمناسبة وبغير مناسبة. ربما كان اندماج النظام العربي بواقعه الإقليمي في منظومة العلاقات الدولية المعاصرة، خروجاً من عباءة الخصوصية وأوهام التراث، هو أحد المخارج التي يمكن أن تساعد على نهوض العرب من أزمتهم الطاحنة ومشاكلهم المتزايدة.
سابعاً: إن وجود إسرائيل باعتبارها كياناً غريباً على العروبة والإسلام، بدأ يطرح آثاره السلبية على المدى الطويل بمزيد من الإحباط والإحساس بالدونية من دون مبرر، فالكيان «العبري» يسعى دائماً إلى تمزيق أوصال الأمة العربية وتأبيد التخلف فيها وإضعاف نظمها وتحويلها إلى أمة مستهلكة لا تنتج ما تحتاج إليه ولا تساهم بنصيب وافر في حضارة العصر. ولا بد من أن نسجل هنا، أن إسرائيل نموذج استيطاني عدواني توسعي يتميز بالشراسة والمضي بطرق استفزازية تحاول اختزال المنطقة كلها في دورها المستتر الذي يقف وراء المشاكل المختلفة والأزمات المتتالية، خصوصاً بعد ظهور ما سُمي بـ «الربيع العربي» وتداعياته في المنطقة وملابساته المختلفة عليها.
هذه قراءة في ملف له أهميته الكبرى على المستقبل العربي وإمكان تعافيه مما يعانيه، فالمستقبل سيظل محكوماً بإصلاح النظم العربية وإعادة ترتيب البيت من الداخل بالتركيز على التعليم والبحث العلمي وضخ ثقافة عصرية تجعل العرب عنصراً فاعلاً في إنجازات عالم اليوم والأخذ بأسباب التكنولوجيا الحديثة والتقنيات المتقدمة. ولن يتعافى العرب ما لم يدركوا أن اتحادهم هو سر قوتهم ومصدر نهضتهم ومبعث الأمل بشراكة عصرية تثبت للجميع أن الأمة العربية وجود حيوي مؤثر وليست مجرد ظاهرة صوتية عاجزة.
د. مصطفي الفقي;
جريدة الحياة
تاريخ النشر: 3 أكتوبر 2016
رابط المقالة: http://www.alhayat.com/article/828885/شباب/متى-يتعافى-النظام-العربي